مقالات عامة

هل نتعلم من النُّكوص الأمريكي العولمي؟

د. علي محمد فخرو

ها أن السّحر قد انقلب على الساحر وسقطت الأقنعة. فالولايات المتحدة، عرابة الرأسمالية النيوليبرالية العولمية، قد قررت أن تمارس السياسات الحمائية وتزيد التعرفة الجمركية على ما تستورد من صلب وألمنيوم من مختلف دول العالم. وبررت اتخاذ ذلك القرار الانكماشي المتعارض مع مبدأ حرية السوق بأنه حماية لمصانع وتجارة وعمال تلك الصناعة في أمريكا في وجه المنافسة الأجنبية الخارجية.
إنه انقلاب على الفلسفة والمبادئ الرأسمالية الجديدة التي قدمتها أمريكا للعالم منذ حوالي أربعين سنة. أهم مبادئها كان الإيمان شبه المطلق بقيام اقتصاد عالمي جديد تحكمه متطلبات حرية الأسواق: من تنافس، ومن حرية انتقال للبضائع والأموال عبر العالم كله بلا قيود ولا حواجز جمركية ولا عراقيل قانونية، ومن إبعاد لحكومات الدول عن التدخل في شؤون السوق أو محاولة تنظيمه، ومن خصخصة للخدمات الاجتماعية العامة من مثل الصحة والتعليم والإسكان والنقل العام، ومن حد لحريات وسلطات ونشاطات النقابات العمالية حتى لا تستطيع التأثير الفاعل على موضوعي مستوى أجور العمال ونسبة البطالة بينهم.
ومن أجل جعل الاقتصاد الجديد علماً قائماً بذاته ولا يخضع لموازين ومعايير حقول العلوم الإنسانية الأخرى أوجدت أمريكا مدرسة شيكاغو الاقتصادية الشهيرة ليدافع عرابوها عن مدرسة الرأسمالية المتوحشة الجديدة في وجه المدارس الاقتصادية الأخرى، فكان أن وجد المتفلسفون والدعاة والمتحدثون والناشرون والمبررون. وكان أن وجدت مراكز البحوث والاستراتيجيات الاقتصادية المدفوعة الأجر من قبل الشركات الكبرى للدفاع عن مصالحها.
لكن أمريكا هي أمريكا، لا تحكمها إلا المصالح الوطنية الأنانية الآنية، حتى ولو أدى ذلك إلى لحس تواقيعها على الاتفاقيات ونكران تعهداتها، وكيل الكذب على منافسيها. إنها الانتهازية التي تقوم على القوة والفتوة والمصالح، وجعل المصالح الانتخابية الداخلية فوق كل قيمة أو معيار أو أخلاق.
نقول كل ذلك لأننا سبق وأن حذّرنا، مع الكثيرين غيرنا، من عدم انجراف العرب الأعمى نحو أنوار الرأسمالية النيوليبرالية العولمية البالغة التوحش والمهتمة أولاً وآخراً بمصالح الدول الرأسمالية، وعلى رأسها أمريكا، وبمصالح شركاتها الكبرى العابرة للقارات.
لقد كان الهدف منذ البداية واضحاً: قيام نظام اقتصادي عولمي جديد يفتح كل أسواق العالم وكل مجتمعاته أمام دخول الشركات الكبرى في منافسات غير متكافئة وغير عادلة مع الشركات الوطنية المحلية في حقلي الإنتاج والخدمات ووضعها أمام مصيرين لا ثالث لهما: إما إعلان الإفلاس والانسحاب من السوق وتسريح عمالها أو الاندماج في الشركات العولمية الكبرى كتابع وظيفي أو كوكيل محلي زبوني مطيع.
لقد ذكرنا آنذاك بأن الدول الرأسمالية، في الغرب والشرق، قد مارست كل الأنواع الحمائية لصناعاتها وشركاتها عند بداية قيامها، وأن تلك الخطوات الحمائية قد أزيلت فقط بعد أن شبت تلك الصناعات والشركات الوطنية عن الطوق وأصبحت قادرة على المنافسة في الداخل والخارج.
لقد أكدنا أن الموضوع لم يكن الانتقال إلى اقتصاد عالمي عادل جديد، يأخذ بعين الاعتبار مصالح الأقوياء والضعفاء ويراعي الفروق بين الدول في مستويات التطور التكنولوجي والعلمي والإنتاجي، وإنما كان موضوع استغلال لسقوط الاقتصاد الاشتراكي المنافس في الاتحاد السوفييتي السابق وأتباع مدرسته، وصعود القطبية الأمريكية الاقتصادية والعسكرية القادرة على فرض نظام عولمي جديد يسمح بفتح كل أسواق العالم ونهب ثرواته وإيصاله إلى الحالة العاجزة التي وصل إليها. إنها حالة ازدياد فقر الفقراء وغنى الأغنياء، وتراجع الخدمات الاجتماعية، وضعف النقابات العمالية وتنامي ديون الدول النامية، وتمكن الشركات العابرة للقارات ومؤسسات المال الكبرى من رقبة الاقتصاد والمال في العالم كله.
اليوم تقوم أمريكا التي خلقت هذا النظام الاقتصادي الجائر، وأرغمت كل المؤسسات المالية الدولية على فرضه على كل الدول المثقلة بالديون، اليوم تقوم بالخروج عليه، وذلك حماية لمصالحها الوطنية الضيقة. فهل سيقتنع المسؤولون العرب، بأن النظام الاقتصادي العولمي ليس نظاماً مقدساً لا يمس وأنه، مثل كل الأنظمة الأخرى، يمكن الأخذ منه وترك مالا يصلح فيه؟
لا يسمح المجال هنا بإيراد مئات التفاصيل التي تبرهن على التأثيرات السلبية للنظام الرأسمالي النيوليبرالي العولمي على الصناعات العربية الناشئة وعلى شركات الخدمات العربية المكافحة في سبيل تواجدها في الأسواق المحلية، ولا إيراد تفاصيل اندفاع بعض الحكومات العربية نحو خصخصة الخدمات الاجتماعية العامة، وتسريح الألوف من موظفيها تحت الادعاء بأن إسناد القيام بتلك الوظائف للشركات الخاصة هو أكثر كفاءة وأرخص. كل ذلك موجود في مئات الكتب والتقارير.
ما يهمنا هو اقتناع الحكومات العربية بأن السباحة في بحر العولمة الاقتصادية الهائج تتطلب أن تعود لبناء كتلة اقتصادية إقليمية عربية إذا كانت تريد أن تصون المصالح الاقتصادية العربية في وجه التنافس الدولي غير المتكافئ وغير المتوازن.
من قبل، كانت حجة الحكومات العربية أنها ملتزمة باتفاقيات التجارة الدولية المبنية على قواعد الرأسمالية النيوليبرالية. أما وأن أمريكا قد ضربت بكل ذلك عرض الحائط وأثبتت أن النظام العولمي الاقتصادي، بكل اتفاقياته وضوابطه، ليس بالنظام المقدس الذي لا يمس، فهل نستطيع أن نأمل بأن تراجع الحكومات العربية، مجتمعة، ما يصلح لها فتأخذه، وما يضرها فترفضه، وعلى الأخص حماية صناعاتها الناشئة وشركات خدماتها الوليدة؟
أخيراً، لنذكر أنفسنا بأن أكبر صناعات الصلب والألمنيوم موجودة في بعض بلاد العرب. ألا يرمز ذلك إلى أن السكين
العولمية قد اقتربت من وريد الرقبة العربية؟

hsalaiti@kpmg.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى