مقالات عامة

هل يحاكم قابيل بتهمة قتل هابيل؟

د. عصام نعمان

نشرت صحيفة عربية قبل أيام أن نقابة المحامين في النجف أجرت محاكمة للخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، انتهت بالحكم عليه بالإعدام بتهمة قتل زيد بن علي بن الحسين.
الخبر طريف ومخيف في آن. طريف لوجود أناس في كوكبنا الأرضي ما زالوا يجدون رغبة ومتعة في الاقتصاص من شخص لارتكابه جرماً قبل نحو 1400 سنة. مخيف لاحتمال أن تتفشى هذه التقليعة في أوساط البشرية المعاصرة، فينبري أشخاص أو جماعات (من فرط ولعلهم بإحقاق الحق ونشدان العدالة)، إلى إجراء محاكمة لقابيل بتهمة قتل أخيه هابيل!
تصوروا لو تحوّلت هذه التقليعة إلى نزعة أو تقليد جارف عابر للأمم والشعوب، فينبري بعض المسيحيين إلى إجراء محاكمة لكل من يُثبت التحقيق قيامه أو اشتراكه أو تدخله في جريمة صلب السيد المسيح كما يقولون. ثم تصوروا لو أن بعض المسلمين انبرى إلى إجراء محاكمة لكل من يُثبت التحقيق قيامه أو اشتراكه أو تدخله في جرائم اغتيال كل من الخلفاء الراشدين: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، والخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز (الذي يعتبره الفقهاء خليفة راشدياً بالتقوى والفتوى والممارسة)، وسيد الشهداء الحسين بن علي، وغيرهم كثيرون من القادة والأعلام والأفذاذ المظلومين.
إذا ما حدثت كل هذه المحاكمات فتكون البشرية قد استحضرت ماضيها كله، وأعادت اجتراره في الحاضر وربما في المستقبل إلى نهاية التاريخ.
هل من مسوّغ لهذا الخوف؟
نعم، لأن بعض العرب والمسلمين ما زال يعيش في الماضي ويقوم بشكل أو بآخر باستحضار بعض واقعاته وحكاياته وأحداثه وحوادثه ويُعيد اجترارها أو محاكاتها في الحاضر.
نعم، الماضي يحتل قسماً كبيراً من حاضرنا، ونحن نعيشه يومياً ونعيد إنتاجه، بوعي أو بغير وعي، في شتى مناحي حياتنا. كل ذلك لأن الماضي في ثقافتنا ما زال المثل والمثال والقدوة، فنحن لا نتذكّر واقعاته وأحداثه لأخذ العبرة والاتعاظ؛ بل للاجترار والمحاكاة.
ما سبب هذه الظاهرة المرضية؟
إنني من القائلين إن الإنسان في قوله وفعله هو ابن ثقافته، كما تكون ثقافته يكون. صحيح أن جملة عوامل وحاجات وتطلعات تكوّن ثقافة الإنسان، وقد يكون لبعضها دور في تكوينها، وبالتالي في دورها أكثر من غيره، ومع ذلك فإن حضورها في عقل الإنسان وقلبه وأعصابه يبقى حضوراً متكاملاً ومؤثراً.
لكن، هل ماضينا كله تليد؟ هل كله صحيح وصحي وحقيقي ومتألق وجدير تالياً بأن يُحاكى ويقلّد؟
لا شك في وجود جوانب بهيّة وباهرة في ماضينا، لكن ثمة جوانب أخرى مظلمة وبائسة؛ لذا لا يجوز تقبّل الماضي كله بعجره وبجره. من الممكن، بل من الضروري، اكتناه قيمه وجوانبه الحيّة، لكن من الضروري أيضاً اطّراح قيمَه الشائخة وجوانبه المظلمة.
بعض الماضويين، وربما السلفيين أيضاً، موغل في التعلق بالماضي حتى حدود الشغف. الماضي كله أفضل من الحاضر. الماضي كله جدير بأن يعاد فرضه على الحاضر والمستقبل. الماضي، في مفهوم هؤلاء، هو المقدّس في وجه الحاضر المدنّس.
لعل السبب الرئيسي لسطوة الماضي على الحاضر، هو اقتران الحاضر في معظم مراحل تاريخنا بسطوة الغير المعادي أو المختلف ونزوعه إلى فرض نفسه وبالتالي ثقافته علينا. رفض الجديد والحديث، كان جراء مجيئه أو اقترانه مع الآخر المستعمر أو العدو أو أقلّه المختلف.
قلّة من الناس مفكرون عقلانيون ومصلحون شجعان، تمكّنوا عبر التاريخ من الخروج من الماضي نحو الحاضر والمستقبل، من دون أن يسيئوا إلى تمسك المؤمنين، ولاسيما الماضويين منهم، بقيَم الماضي التي يعتبرونها مقدسة. هؤلاء لاحظوا أن الإيمان بالله ورسله لا يتناقض مع ثقافة الانفتاح العقلاني على الحاضر والتشوّف المتوازن إلى المستقبل؛ بل إنهم لاحظوا ظاهرة مدمّرة هي أن عبادة السلطة التي يمارسها معظم الحكّام، تتعارض مع عبادة الله؛ لذا دعوا إلى فصل السلطة عن الدين.
كيف الخروج من الماضي وثقافته المغلقة إلى الحاضر وثقافته المنفتحة والمستقبل وثقافته المغايرة؟
ثمة مسالك وطرائق عدّة، لعل أفعلها في زماننا وسائل التواصل الاجتماعي، التي قرّبت بين الأفراد والجماعات، وأتاحت للفرد فرصاً كثيرة لإطلاق قدراته وإيصالها إلى الملأ، وجعلت الانشغال بقضايا الحاضر ومتطلباته متقدّمة على قضايا الماضي وأحداثه الدموية.. والاهتمام بمحاكمة قاتلي الناس في أرواحهم وأرزاقهم وطموحاتهم، أوْلى من محاكمة قابيل قاتل أخيه هابيل منذ الآف القرون!

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى