هل يصدِّق العالم مراوغة تميم في ميونيخ؟
حبيب الصايغ
العالم، نعم كل العالم، مدعوّ، اليوم، ليتخذ موقفاً حقيقياً وجدياً وحدياً وعادلاً من قطر ونظامها، فهذه مسؤولية الدول العشرين التي حضرت مؤتمر الأمن في ميونيخ، ومسؤولية 600 شخصية عالمية حاضرة، بل إنها مسؤولية العالم الأخلاقية بعد مرحلة الكشف والفرز التي تمت، ولا مكان بعد اليوم لموقف المتفرج إزاء دولة بلغت هذا المبلغ من إثارة الفوضى، ودعم الإرهاب، والتدخل السافر في شؤون الغير، وقلب الحقائق ثم اتخاذ المواقف والممارسات بناء على ذلك، إلى جانب الفهم المغلوط، بشكل صارخ، لمفهوم السيادة.
البداية مع مناشدة أمير قطر تميم دول العالم الضغط على دول المنطقة نحو التوقيع على اتفاقية أمنية جامعة، تطوى معها صفحة الماضي. هكذا، وبمنتهى السذاجة، يوجه رأس النظام القطري خطابه إلى العالم، وكأن جراحات الماضي التي تسببت فيها قطر وما زالت تؤجج نيرانها وأوجاعها، يمكن أن تنتهي هكذا بكبسة زر، فيما المنطق السليم يحيل إلى ضرورة مراجعة قطر سياساتها المدمرة التي أثرت، للأسف، حتى في النسيج الاجتماعي للشعوب، ومعلوم أن جراح الشعوب أحوج ما تكون إلى علاج يستأصل الداء بالدواء الناجع لا المسكنات.
أول حرف في أبجدية التخلي عن السيادة تمثله دعوة قطر دول العالم للضغط الدبلوماسي على دول المنطقة نحو ما أسمته اتفاقية أمنية جامعة، وصولاً إلى الاقتداء، كما طرح تميم في مؤتمر الأمن في ميونيخ، بأنموذج الاتحاد الأوروبي، مطالباً بتطبيق مثله كمظلة لدول المنطقة، ومهاجماً «دول الحصار» التي «قوّضت أمن المنطقة ومنظومة مجلس التعاون»، حيث تعرضت قطر «لإجراءات عدوانية من جيران طامعين»، وسواء أكان من كتب هذه الكلمات المرتعشة هو عزمي بشارة نفسه، وهذا هو الأرجح، أو أحد صبيانه، فإن الخطاب يستدعي الشفقة على دولة فقدت بوصلتها وصوابها، واستمرأت المضي في غيها بدل تصويب الخطاب وتعديل المسار، لأنها وجدت ذلك أسهل، لتؤكد استهانتها بالشعب القطري العزيز ومصيره.
جيران قطر، على حد خطاب تميم، طامعون في قطر، لكنه يترك العبارة مرسلة مطلقة من دون تفنيد أو تدليل.. الإمارات والسعودية والبحرين، وربما مصر تطمع في قطر، فما هي وجوه الطمع، وماذا تمثل قطر الفاشلة، أصلاً، إزاء هذه الدول؟ لا مقارنة في الأصل كما في الفرع، وفيما تتقدم دولة مثل الإمارات كل يوم، وتكتسب مكانة عالمية جديدة مطلع كل نهار، وكل ذلك موثق بالمعلومة والرقم، تتأخر قطر عن ركب التقدم، وتذهب أبعد في التقوقع ضمن ما يزينه لها سماسرة الخراب، فماذا عسى أن تقدم دولة واجهتها السياسية حمد بن خليفة وحمد بن جاسم بن جبر، وواجهتها الإعلامية عبد الله العذبة وجمال ريان وأحمد منصور وياسر زعاترة وخديجة بن قنة؟
هل نطمع في دولة نبحث عن واجهتها الثقافية فلا نكاد نجد؟ قطر يا تميم عنوان الفشل المدوي في منطقتنا. قطر هي عار منطقتنا وفضيحتها المدوية، فلماذا نطمع فيها.. وكيف؟ هل نطمع في فشلها السياسي أو الاقتصادي؟ هل نطمع في غباء نظامها الذي أوصلها إلى هذه الحالة من العزلة؟ هل نطمع في دولة تحوّل هاجسها من الإصرار، كعادة جيرانها، إلى رفع شعار المظلومية واستجداء عطف العالم؟
تبلغ مأساة تميم ذروتها وهو يتناول، بسذاجة الدهماء والسابلة، عنوان الإرهاب والتطرف في منطقتنا، حيث «اتهام الإيديولوجيات المتطرفة نوع من التبسيط»، وحيث «الفشل النمطي لتلبية الاحتياجات الأساسية للشعوب أدى ويؤدي إلى الإرهاب». لا يعرف المرء هل يخاطب، بعد هذه العبارات، تميم أو معلمه عزمي، فإني أراك يا عزمي بشارة تتسلل إلى مفردات خطاب تميم كالشيطان، وتتشقلب بين السطور كالبهلوان.
فكر قطر اليوم هو فكر عزمي بشارة. فكر دخيل على المنطقة وآخر ما يفكر فيه مصالح دولها وشعوبها، وتترجم ذلك الفكر إعلامياً أبواق قطر المأجورة، خصوصاً قناة الجزيرة الإرهابية الإخوانية، ومعها تلفزيون قطر الرسمي الذي يلحق «الجزيرة» وكأنه رجلها العرجاء، ومن يرسم وينفذ سياسة قطر الإعلامية، وهنا مكمن الخطر، غير قطريين، فضلاً عن أنهم من أصحاب الأجندات الخارجية التي تنادي على نفسها بشكل فج ووقح وعلني، فقطر، في المقابل، تعلن أنها حاضنة شذّاذ الآفاق من هذا النوع، كما تؤوي المعارضات الخليجية، وقياديي وأعضاء تنظيم الإخوان المسلمين الدولي، في الدوحة وإسطنبول ولندن، فهل صدّق العالم أو يصدّق تميم وهو يدعي أن «دول الحصار» لا تريد حرية الإعلام والتعبير؟
حاول تميم، عبر خطاب معلمه ومعلم أبيه عزمي، مخاطبة العالم، والغرب خصوصاً، باللغة التي يفهمها ويستجيب لها: العزف على وتر حرية التعبير والإعلام، والإشارة هنا إلى قناة الجزيرة التي دعت الدول الأربع الداعية لمكافحة الإرهاب إلى إغلاقها، باعتبارها تمثل حرية التعبير والإعلام في المنطقة، أما الحقيقة التي على العالم، بغربه وشرقه، معرفتها، فهي أن «الجزيرة»، ومعها القنوات والمواقع والصحف التي يديرها سيئ الذكر عزمي بشارة، وعلى رأسها «العربي الجديد» ليست قنوات أو أدوات إعلامية، وإنما هي وسائل عصابية منظمة لها غرض وحيد: التحريض على القتل، عبر خطاب الكراهية والبغضاء، ونشر التقارير والأخبار المملوءة بالأكاذيب والفبركات.
فهل يصدّق العالم أمير قطر وهو يدعو إلى حرية التعبير والإعلام، قطر ذاتها التي تخفي قسرياً وتعتقل كل من ينبس ببنت شفة من أهلها معبراً عن رأي مخالف لرأي النظام، وهل واقعة الحكم بالمؤبد على الشاعر القطري ابن الذيب بسبب قصيدة عنا ببعيد؟
نتحدى يا تميم، يا من ادعيت أمام العالم في ميونيخ، أن الإمارات والسعودية والبحرين لا تريد حرية الإعلام والتعبير، ويا من دعوت إلى حرية الإعلام والتعبير في المنطقة، أن تسمح لقناة الجزيرة، أو لتلفزيون قطر الذي يحاول اتباعها وكأنه قدمها العرجاء، أن تبث تقريراً عن أي شأن محلي سلبي، ولو عن حفرة منسية في شارع منسي.
لكن أسوأ ما تضمنه خطاب تميم في ميونيخ، وصفه سياسة دول المقاطعة ب «السياسة المغامرة»، فهل هو الزهايمر المبكر؟ منذ فجر أزمة قطر، منتصف التسعينات، والدول الأربع، وغيرها كثير، تصف سياسة قطر، بمناسبة ومن دون مناسبة، بأنها سياسة مغامرة لجهة تهورها واعتمادها على القراءة الخطأ والحسابات غير المحسوبة، وها قد دارت الأيام، لتوجه قطر الاتهام نفسه، في ذروة الإسقاط بل السقوط، على دول المنطقة ذات سياسات الحكمة والاعتدال.
وليس إلا الزهايمر المبكر الذي يصيب بعض الدول وقادتها، فهل يصدق العالم أكاذيب ومراوغة تميم في ميونيخ؟
habibalsayegh778@gmail.com