«وجوه سَكندريّة»
د. حسن مدن
قلت هنا، غير مرة، إني أُفضل أجواء المدن غير العواصم. صحيح أن للعواصم سحرها، وصحيح أيضاً أنها تأسر الناس إليها، فالبلدان تقرن عادة بعواصمها، ففيها تتركز الوزارات والسفارات والمواقع الجاذبة للسياح، لكنها تعجز عن توفير أمور أخرى، لا نجدها إلا في ما يمكن أن نطلق عليها المدينة الثانية، أو حتى في مدن صغيرة بعيدة.
للأخيرة سحر فريد أيضاً. فلا نجد اكتظاظ الناس وازدحام المرور وصعوبة الحركة، وهي الصفات التي تطغى على العواصم، فعدد السكان أقل، وكذلك عدد المركبات، وتتسع مساحات التنفس في هواء نقي، وربما تكون الطبيعة ذاتها أكثر جمالاً مقارنة بالعواصم.
هناك أمر آخر أكثر أهمية من هذا كله، هو طباع الناس. كل مدينة تترك بصمتها على سلوك أهلها، فنحن، إلى درجة كبيرة، من صنعة المكان الذي نقيم فيه. وتحضرني ذكرى عن لقاء مع طفلة صغيرة شاهدتها قبل سنوات على شاشة التلفزيون. أتت الطفلة عاصمة بلادها من مدينة، وربما من بلدة بعيدة، ضمن رحلة للتلاميذ لتعريفهم بعاصمة بلدهم.
سألها مذيع التلفزيون عن انطباعاتها، فقالت: إنها سعيدة جداً بما رأته وتراه، لكن ما لفت انتباهها مشي البشر السريع في الشوارع، فهم لا يمشون الهوينى، وإنما يكادون يجرون. «تشعر أنهم على عجلة من أمرهم دائماً».
علاء خالد، أحد أبرز شعراء قصيدة النثر في مصر، وابن مدينة الإسكندرية وضع كتاباً شائقاً عن مدينته الجميلة، أسماه «وجوه سَكندرية»، ولفت نظري اشتقاق الصفة من اسم المدينة، فهو لم يقل: «وجوه اسكندرانية» على جري العادة، وراقني ذلك، لا أعلم لماذا، فربما أثقلت «ال» التعريف مسمى المدينة الأصلي.
في أحد أجزاء الكتاب يقيم المؤلف ما يشبه المقارنة بين القاهرة والإسكندرية، أو «إسكندرية» كما شاء هو، مُنطلقاً من الملاحظة التي يبديها أصدقاؤه القادمون من القاهرة حين يزورون المدينة قائلين إن فيها «حاجة رايقة في الناس والسواقين والهوا».
لا يجزم الكاتب ابن المدينة بسبب هذا الشيء الرائق، هل له صلة بالتعدد الذي عرفته الإسكندرية في تاريخها، ما يعني أنه كان هناك مكان شاغر للآخر دائماً انعكس على سمت أبناء المدينة، هل هو آتٍ من الهدوء الذي توحي به المدينة نفسها، «فمهما تعالت الأصوات فهناك حد، وهو البحر، ليس له صوت، سيبتلع كل الأصوات ويعيد هضمها وبعثها في صوت واحد مكرر وبلا صدى، مما يسمح بوضوح الصوت الداخلي»، وثمة احتمالات أخرى أوردها الكاتب.
لكنه يقف أمام ثنائية ما هو مركز، أي القاهرة في حال مصر، وما هو غير ذلك، والإسكندرية نموذج بالنسبة له. كان الكاتب شغوفاً بفكرة القاهرة التي لا تنام، وكان يخشى أنه ببعده عنها ستفوته أشياء كثيرة وهو جالس في فردانيته في الإسكندرية، قبل أن يتصالح مع نفسه بأن يجعل من هذه النفس مركزاً صاخباً لا يهدأ.
madanbahrain@gmail.com