وضع النقاط على الحروف
عوني صادق
«أحياناً يحتاج الأمر إلى شخص يقوم بتأجيج الأمور ويثير التمرد ويوقظ الناس. وترامب هو هذا الشخص. يجب أن نشكر هذا الرجل الخطير: لقد قام بتمزيق القناع ووضع حداً لحفلة الأقنعة! لقد قال ترامب الحقيقة للعالم: الولايات المتحدة ليست وسيطاً نزيهاً، وهي لم تكن في أي يوم هكذا ولن تكون! هي من أكبر المتعاونين مع الاحتلال «الإسرائيلي»، مؤيدة ومزودة للسلاح ومعززة له»! (جدعون ليفي/ هآرتس 10-12-2017).
الصدمة التي أحدثها قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإعلانه القدس «عاصمة لدولة «إسرائيل»» ونيته بنقل السفارة الأمريكية إليها، نصفها مصطنع، وهذا يخص الجانب العربي الرسمي والقوى السياسية شبه الرسمية، ونصفها الآخر ينم عن جهل أو تجاهل لما كان يحدث للمدينة المقدسة منذ نصف قرن على الأقل. فالحقيقة أن القدس الغربية محتلة منذ سبعين سنة، والقدس الشرقية منذ خمسين! وقرار الرئيس الأمريكي رفع الغطاء عن الاصطناع والجهل معاً. ولم يكن ترامب ليستطيع أن يعلن قراره لولا عوامل عدة راهنة، والأهم لولا سياسات «إسرائيل» وإجراءاتها منذ يونيو/حزيران 1967 وحتى يوم إعلان القرار، تلك السياسات التي غطتها الولايات المتحدة من جهة، وتعامت عنها السياسات العربية من جهة ثانية، وعجزت عن إفشالها منظمة التحرير الفلسطينية بدءاً، وتواطأت عليها (السلطة الفلسطينية) بعد (اتفاق أوسلو).
لقد أقرت الأمم المتحدة في قرار التقسيم رقم (181- 1947) إقامة دولتين في فلسطين الانتدابية: دولة يهودية وأخرى عربية، على أن تكون مدينة القدس دولية. في حرب 1948، احتلت العصابات اليهودية القدس الغربية، وبعد قيام «الدولة» أعلنت الغربية عاصمة لها. بعد حرب يونيو/ حزيران 1967، احتل الجيش «الإسرائيلي» القدس الشرقية، وبينما رفض مجلس الأمن «جواز الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة»، قامت الحكومة «الإسرائيلية» بإرسال رسالة توضيحية للأمم المتحدة أفادت أنها لا تنوي ضم القدس الشرقية، لكنها في العام 1980، وعن طريق المحكمة العليا «الإسرائيلية»، أعلنت القدس «الكاملة الموحدة عاصمة «إسرائيل» الأبدية»! وفي العام نفسه، أقر «الكنيست» «قانون أساس» ينص على ما أعلنته المحكمة، وقيدت التنازل عن أي جزء من المدينة بأغلبية ثمانين عضو «كنيست»، وهو ما يجعل الأمر مستحيلاً.
لم يتوقف الأمر عند سن القوانين، بل كانت «الاستراتيجية الصهيونية» قبل قيام الدولة ومن ثم بعدها «الاستراتيجية «الإسرائيلية»» ، تبدأ بخلق الوقائع على الأرض، وتغيير الواقع، ثم سن القوانين الملائمة ليصبح «الأمر الواقع» قانونياً! لقد تركت القدس وأهلها تحت رحمة المخططات «الإسرائيلية»، تغير فيها وتضيق على أهلها، وتستغل القوانين والتشريعات التي سنتها لصالحها. وقرار ترامب ليس من بنات أفكاره، فهو سياسة أمريكية معتمدة، وكما قال أحد الكتاب «الإسرائيليين»: ترومان اعترف بالدولة، وكينيدي زودها بالسلاح المتفوق، وترامب منحها القدس! والرؤساء الأمريكيون منذ ترومان وحتى أوباما، كانوا في سباق من يقدم لها أكثر! ومنذ 1995 اتخذ الكونجرس قراراً بنقل السفارة إلى القدس، والتأجيل كان فقط انتظاراً ل«الظروف الأفضل»، وصادف أن تحقق ذلك مع مجيء ترامب!!
السؤال الآن هو: ما العمل؟
إعلان ترامب وضع النقاط على الحروف، وأسقط الأقنعة عن وجه أمريكا، كما قال الصحفي «الإسرائيلي» جدعون ليفي الذي اقتبسناه في بداية المقال. هذا الوجه البشع الذي لم يكن خافياً على كثيرين منا منذ عقود، لكن الحكام والقيادات التي تمسكت به كل تلك العقود بذرائع شتى، وصلت إلى نهاية طريقها هذه المرة! وهذا أمر يغير كل قواعد اللعبة، بالنسبة للجانب الفلسطيني في أقل تقدير.
لكننا لا نلحظ تغيراً حقيقياً في تصرفات وتصريحات السلطة الفلسطينية. لقد قال صائب عريقات، أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، عضو اللجنة المركزية لحركة (فتح)، كبير المفاوضين: إن الإعلان يشرعن الاحتلال، ويستبعد الولايات المتحدة عن أي دور في «عملية السلام»! وإذا كان الأمر كذلك، يفترض أن يترتب عليه:
– إعلان انتهاء «عملية السلام».
– إلغاء (اتفاق أوسلو) وما ترتب عليه.
– حل السلطة الفلسطينية وكل ما تفرع عنها من مؤسسات.
– التخلي عن سياسة «الحياة مفاوضات».
– إعادة الاعتبار للميثاق الوطني الفلسطيني قبل التعديلات التي دخلت عليه.
– العودة إلى الشعب لاختيار قيادات جديدة ولتجديد مؤسساته وهيئاته القيادية.
– إعادة الاعتبار لشعار التحرير والمقاومة بكل أشكالها، بما في ذلك المقاومة المسلحة.
إن الرد على السياسة الأمريكية المنحازة لـ «إسرائيل» ، لا يجب أن يتوقف عند تراجع ترامب عن إعلانه، بل يمتد بتغيير «الواقع السياسي» كله وتشكيل قيادة فلسطينية وطنية جديدة، وخطة عمل جديدة، تعتمد «استراتيجية التحرير والمقاومة»، تحرير فلسطين من البحر إلى النهر!
awni.sadiq@hotmail.com