َمنْ فقد روسيا؟
تأليف: بيتر كونرادي ترجمة وعرض:نضال إبراهيم
كشف انهيار الاتحاد السوفييتي في نهاية عام 1991 عن حقبة جديدة من السلام والتعاون الروسي مع الغرب، حتى قيل إنها نهاية التاريخ، وإن العالم بأسره سيعتنق قيم التنوير والديمقراطية الليبرالية، لكن الواقع قدّم شيئاً مختلفاً جداً، فقد كانت روسيا تعاني الشعور بالإهانة من تسعينات القرن الماضي، وتم تجاهل احتجاجاتها من توسّع حلف الناتو شرقاً، إلى أن جاء بوتين ليقدّم بداية جديدة، إذ عزم على استعادة اعتزاز بلاده المكلومة، وليظهر أن الغرب أخطأ مع توغله في جورجيا وأوكرانيا وسوريا، وهذه دلالات أن الحرب الباردة على وشك أن تصبح ساخنة مرة أخرى، بحسب بيتر كونرادي مؤلف هذا العمل الذي بين يدينا.
في هذا العمل الجديد، يعالج الصحفي البريطاني بيتر كونرادي استناداً إلى مقابلات حصرية مع اللاعبين الرئيسيين في الجانب الروسي والغربي، فشل التفاهم من كلا الجانبين على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية، ويوضح كيف يمكننا إعادة العلاقات إلى مسارها قبل أن يتأخر الوقت، ويجسد عمله أيضاً قصة الآمال الكبيرة والنية الحسنة والإرادة الصلبة، وأيضاً حالات سوء الفهم والفرص الضائعة.
وعلى الرغم من أن هذا الكتاب في معظمه يتعلق بالسياسة الخارجية الروسية، فإنه يغطي أيضاً التطورات الغربية، وخاصة وجهات النظر المتطورة لأبرز صناع القرار الأمريكي. كونرادي كان مراسل صحيفة «صنداي تايمز» في موسكو في تسعينات القرن الماضي، ويعتمد كثيراً على تجاربه الشخصية في روسيا، فضلاً عن مهاراته الصحفية في السرد.
مخاوف سياسية
تجيب هذه الدراسة الحية والمتنوعة عن السؤال المطروح في العنوان، «من فقد روسيا؟» وذلك بالإشارة ليس فقط لفلاديمير بوتين، بل لسياسات الغرب أيضاً. ويشير الكاتب إلى أنه من بين العديد من المخاوف التي أثارتها رئاسة ترامب، هي أنه سيعيد تنظيم علاقة الولايات المتحدة مع روسيا. فعلى الرغم من استقالة مستشاره للأمن القومي المؤيد لروسيا، مايكل فلين، إلا أنه إذا كان ترامب سيمضي بحسب تصريحاته أثناء حملته الانتخابية، فإنه سينهي العقوبات المفروضة على روسيا لمعاقبة تدخلها في الحرب الأهلية الأوكرانية، وقبول استيلاء موسكو على شبه جزيرة القرم، وصياغة تحالف جديد مع الرئيس فلاديمير بوتين ضد الإرهاب. وسيكون هذا الأمر وجهاً لوجه في الواقع، وهو ليس سابقة من نوعها، فالرؤساء الجمهوريون في الولايات المتحدة لديهم تاريخ من السعي إلى التقارب مع روسيا وسلفها، الاتحاد السوفييتي.
ويضيف الكاتب أنه بعد وفاة ستالين في عام 1953 كان هناك تأجيل ملحوظ في الأعمال العدائية في الحرب الباردة خلال الإدارة الأولى للرئيس الأمريكي آيزنهاور. وفي السبعينات كان ريتشارد نيكسون، إلى جانب هنري كيسنجر، مهندس الانفراج الأمريكي- السوفييتي. حتى إن رونالد ريغان، الذي أعلن رسمياً الاتحاد السوفييتي كإمبراطورية شريرة، كان سريعاً في فهم استيراد التحول السوفييتي في عهد ميخائيل غورباتشوف أواخر الثمانينات. أما جورج بوش الابن فقد كان يرى في بوتين رجلاً صادقاً وصريحاً «ملتزماً ببلاده والمصالح العليا لها بعمق».
إجابة كونرادي على سؤال كتابه هي أن بوتين كان مسؤولاً عن خسارة الغرب لروسيا، من خلال تجنب الديمقراطية الليبرالية لصالح الاستبدادية المحافظة اجتماعياً، ومن خلال السماح لمخاوفه من مكائد النظام الغربي أن تخيم على حكمه، فضلاً عن الانفرادية العدوانية في إعادة البناء وإعادة تأكيد القوة الروسية.
هوية روسيا الأوروبية
كونرادي ينتقد بشدة الفشل الغربي فيما يتعلق بروسيا، من دون أن يشوه صورة بوتين، ويرى أن السبب الأكثر إلحاحاً للمشكلات الحالية في العلاقات الروسية – الغربية هو الأزمة الأوكرانية التي انفجرت في عام 2014. ولكن كما يوضح كونرادي عبر سرده، فإن الحرب الباردة الجديدة كانت لها فترة طويلة من التراكمات المتجذرة في فشل الولايات المتحدة لمعاملة روسيا ما بعد الشيوعية كشريك جيوسياسي متساو، والسعي لإدماجها في الهياكل الأمنية الغربية. وكانت الشكاوى الروسية حول الغرب تتعلق بنكث وعوده، وبسبب عدم احترام روسيا كقوة عظمى، وحول توسع الناتو إلى حدودها ذاتها.
ولكن عندما تولى بوتين السلطة في عام 2000، أكد على هوية روسيا الأوروبية، ورأى أن من مهمته تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة، معرباً عن أمله في حل القضية الشائكة المتمثلة في توسع الناتو إلى دول الكتلة الشيوعية السابقة من خلال وسيلة بسيطة، وهي أن تصبح روسيا عضواً في هذا التحالف الغربي.
فرص التعاون
بلغت فرص الشراكة المثمرة بين الولايات المتحدة وروسيا ذروتها في أعقاب هجمات 11 سبتمبر على الولايات المتحدة عندما أصبح بوتين متعاوناً متحمساً في حرب بوش على الإرهاب. كانت آمال بوتين كبيرة في التقارب مع الولايات المتحدة خلال السنوات الأولى من رئاسته. وبحسب المؤلف، يقال – ولكن بشكل غير مؤكد – إلى درجة أن بوتين اقترح تحالفاً كبيراً جديداً مع بوش يكافحون من خلاله الإرهاب معاً ويضمنون الأمن العالمي، كما عمل السوفييت والأمريكيون معاً عند ضرب هتلر في الحرب العالمية الثانية.
يجد الكاتب أن العلاقات الروسية الأمريكية بدأت في التدهور عندما شن بوش في عام 2003 حربه لتغيير النظام في العراق، وهي خطوة لم يوافق عليها بوتين، ثم أصبحت العلاقة إشكالية ومستعصية مع الدعم الأمريكي لموجة ما يسمى «الثورات الملونة» التي بدأت في عام 2004 في ولايات الاتحاد السوفييتي السابق في جورجيا وأوكرانيا. وقد أدت الاحتجاجات الشعبية في روسيا التي كانت تطالب بإجراء إصلاحات ديمقراطية بعيدة المدى إلى زيادة قلق بوتين بأنه سيكون على قائمة حملة الديمقراطية الغربية. وفي خطابه الذي ألقاه في ميونيخ عام 2007، ندد بتصميم الولايات المتحدة على فرض نظامها على دول أخرى، وأدان محاولاتها لخلق عالم أحادي القطب والسيطرة عليه.
ويستند عزم بوتين وإصراره على إنعاش الاقتصاد الروسي ونهوضه من انهياره الكارثي في حقبة التسعينات، وعلى الفوائد التي تجنيها روسيا من ارتفاع أسعار النفط. وكان من المهم له أيضاً تعزيز دعمه السياسي المحلي حين تعثرت الولايات المتحدة في حملاتها ضد التمرد في أفغانستان والعراق.
وعندما جاء أوباما إلى السلطة في عام 2009، كان بوتين مستعداً لإعادة العلاقات الروسية – الأمريكية، لكنه سرعان ما خيب أمله من الحملة الغربية على ليبيا، وبدعم مزدوج من الولايات المتحدة من أجل «الربيع العربي» الذي وصل لسوريا حليفة روسيا. وكانت نقطة الذروة بالنسبة لبوتين، الدعم الغربي للانتفاضة الشعبية في أوكرانيا التي أطاحت بالرئيس المنتخب ديمقراطياً الموالي لروسيا.
الأزمة الأوكرانية
وكما هي الحال مع بقية الكتاب، فإن تعامل كونرادي مع الأزمة الأوكرانية دقيق ومتوازن، ولا يعتقد أن توسع روسيا إلى أوكرانيا هو تمهيد لبرنامج يقوده بوتين لاستعادة الأراضي السوفييتية السابقة وإعادة الاتحاد السوفييتي، بل ما زال هو والعديد من الروس يعتبرون أن جزءاً من وطنهم كان في خطر الانجراف إلى المخيم الغربي. كما كان يعول على استقبال حار من السكان المحليين.
ويشير الكاتب إلى تكهنات كثيرة حول خطط بوتين بشأن دول بحر البلطيق: أستونيا ولاتفيا وليتوانيا، إذ إنها تضم الكثير من السكان الروس. ولكن، كما يشير كونرادي، إذا كان بوتين ينوي توسعاً لروسيا في الغرب كان يمكن لقواته أن تستولي بسهولة على المزيد من الأراضي الأوكرانية.
كما تتضمن الخاتمة فوز ترامب في الانتخابات، وهو ما تم تلقيه بالابتهاج من قبل معظم الروس، الذين كانوا يخشون من فوز هيلاري كلينتون. ويقول كونرادي: «يبدو أن بوتين وترامب متوجهان لتقاسم المسرح العالمي لبعض الوقت». ويتساءل «هل ستبشر واشنطن بموقف أكثر تصالحية في حقبة جديدة من التعاون بين المنافسين السابقين في الحرب الباردة أم سيستغل الكرملين هذا الموقف ويعتبره كدليل على الضعف؟». ويشير إلى أن جميع الرؤساء الأمريكيين، الديمقراطيين والجمهوريين سعوا منذ عام 1991 إلى تحسين العلاقات الأمريكية مع موسكو، ولكن لأنهم كانوا ينظرون إلى روسيا على أنها ضعيفة، كانوا مهتمين فقط بالاتفاق على شروطهم الخاصة. ولكن من المثير للاهتمام أن نرى ما يمكن أن يحدث عندما تلتقي رؤية ترامب «أمريكا أولاً» مع رؤية نظيره الروسي.
ويشير الكاتب أيضاً في خاتمته: «إذاً من حقاً فقد روسيا؟ إن فشل روسيا والغرب في إيجاد تسوية مؤقتة لها جذورها في عدم قدرة الجانبين على الاتفاق على ما حدث في 1991.. العالم الذي ورثناه – وبشكل خاص، مع الاستياء الروسي من كونه عدواً مهزوماً – ينبثق من هذا الخلاف. والأفعال الغربية مثل قصف يوغسلافيا، وتوسع الناتو إلى الشرق والهجمات الغربية بقيادة أمريكية على العراق وأفغانستان أيضاً لعبت دورها في تسميم العلاقات.
كما أن الأمر كان كذلك فيما يتعلق بذكريات الفوضى الاقتصادية والفقر في سنوات التسعينات من القرن الماضي، والتي تم تصويرها من قبل النقاد بأنها نتيجة الليبرالية الجديدة المفروضة على روسيا من قبل الغرب».
ويضيف أيضاً أن «بوتين نفسه يتحمل مسؤولية عزلة بلاده بحجة خوفه من المؤامرات الغربية والرغبة في فرض الاحترام، والتي تترجم في الغالب في الأعين الروسية إلى رغبة في أن تكون بلادهم مهابة. شكل الاستثنائية الذي روجه منذ عودته إلى السلطة في 2012 هو التوضيح الأخير لما رأى الروس أنها مهمتهم الخاصة لفترة طويلة وهي إعادة الهيبة، متصورين بلادهم بشكل مختلف على مدى سنوات مثل روما الثالثة أو روما الجديدة، مركز الشيوعية العالمية، والآن قلب أوراسيا».
الكتاب صادر حديثاً عن دار «ون ورلد» البريطانية للنشر في 384 صفحة من القطع المتوسط باللغة الإنجليزية، ويأتي في ثلاثة أقسام رئيسة هي: 1) زمن المشكلات. 2) ولادة جديدة. 3) السلام الساخن، بالإضافة إلى خاتمة.
نبذة عن المؤلف
بيتر كونرادي محرر أجنبي لصحيفة «صنداي تايمز» البريطانية. وخلال السنوات الست التي قضاها كمراسل خارجي في موسكو، شهد انهيار الاتحاد السوفييتي مباشرة. له العديد من المؤلفات منها: «عازف بيانو هتلر» والكتاب الذي حقق مبيعات عالية بعنوان «خطاب الملك» بالاشتراك في التأليف مع مارك لوج، الذي ألهم الفيلم الحائز على جائزة الأوسكار «خطاب الملك»، وله أيضاً كتاب «الممزق الأحمر: داخل عقل سلسلة القاتل الأكثر وحشية في روسيا» (عن أندريه تشيكاتيلو)، وكتاب بعنوان «فلاد المجنون: فلاديمير جيرينوفسكي والقومية الروسية الجديدة»، وتحدث في كتاب له أيضاً عن العائلات الملكية في أوروبا، والذي نشر في البداية باللغة الفرنسية بعنوان «أوروبا الملكية» في 2011. وجدير بالذكر أن كونرادي درس في جامعة أكسفورد (كلية براسينوس)، ودرس أيضاً في جامعة لودفيغ ماكسيميليانز في ميونيخ. وكان مراسلاً أجنبياً من بروكسل وزيوريخ وموسكو لصالح صحيفة «صنداي تايمز». لديه ثلاثة أطفال ويعيشون في لامبيث، جنوب لندن.