العاصفة الصاروخية التي تسبق التهدئة
حافظ البرغوثي
يخفي «الإسرائيليون» كعادتهم أسرارهم الأمنية، لكن العملية الفاشلة في غزة بفضل يقظة المقاومين الذين اشتبهوا بإحدى السيارات ولاحقوها واشتبكوا معها كشفت أنهم لا يتوانون عن انتهاك أي هدوء متفق عليه، لتحقيق مصالح خاصة. فبعد التوصل إلى تفاهم الهدوء مقابل الهدوء، رأينا المندوب القطري لدى حماس محمد العمادي ينقل حقائب الدولارات، لدفع رواتب موظفي حماس ويتجول على الشريط الحدودي متفقداً الهدوء وهمس في أذن أحد قادة حماس نريد الهدوء، ومع ذلك لم يسلم العمادي من الغاضبين الذي رجموا موكبه بالحجارة. لكن الاحتلال لم يحترم الهدوء الذي عمل وفد أمني مصري على مدار أسابيع لإنجازه، وأرسل الاحتلال قواته الخاصة في عملية مجهولة الهدف. وكان كشف إحدى السيارتين وتبادل إطلاق النار مع ركابها فتيل العاصفة التي أعقبتها، فالوحدة «الإسرائيلية» الخاصة كانت في مهمة غامضة وقيل إنها كانت تعتزم زرع أجهزة تجسس وتنصت ومجسات مراقبة ربما للإنفاق أو لرصد مخازن أسلحة وصواريخ بعيدة المدى، حيث كانت بحوزتهم مواد عازلة لتغطية الأجهزة، وظلت في السيارة بقايا لوحات إلكترونية معقدة.
وبالتالي كان الرد متوقعاً، وهو التصعيد الذي تبع ذلك، لكنه ظل تصعيداً تحت السيطرة من الطرفين، بحيث يمكن العودة إلى الهدوء مجدداً وهو ما حدث فعلاً بعد جهود مصرية حثيثة. فالحسابات السياسية الداخلية تمنع رئيس حكومة الاحتلال من شن حرب لا يعرف مصيرها، وقد تؤدي إلى كارثة إنسانية متبادلة، لأن «الإسرائيليين» اكتشفوا خلال السجال الصاروخي هذا العام عدم قدرة أنظمتهم الصاروخية من «مقلاع داود» إلى «القبة الحديدية» إلى «حيتس» من إبطال مفعول الصواريخ التي كانت تطلق بكثافة، حيث اعترضوا 120 صاروخاً من بين 400، فما بالك لو جرى استخدام الترسانة الأحدث من الصواريخ التي بحوزة حماس والجهاد وجرى تطويرها على مدى السنوات الماضية، لتكون أكثر قوة ودقة.
كما أن قوة الردع الاحتلالية تآكلت تدريجياً، لأن هناك للفصائل ما هو تحت الأرض من أنفاق ومخابئ لا يمكن قصفها جواً، بل يجب الوصول إليها عبر عملية برية تكلف الكثير من الخسائر، وهو ما يرفضه الرأي العام «الإسرائيلي» الذي لم يحتج كثيراً لمقتل ضابط درزي في «الوحدة الخاصة» التي نفذت العملية الفاشلة، وكان احتجاجه سيكون أعلى لو كان القتيل يهودياً. حكومة الاحتلال التي لم تصوت في اجتماعها المطول على استمرار العمليات حتى لا يكون هناك انقسام في الرأي، فالصقور من اليمين تحولوا إلى حمائم باستثناء وزير الحرب أفيغدور ليبرمان الذي انتهز الفرصة واستقال ليخرج كصقر يطلب الحرب . بالنسبة لحركة حماس فإن العودة للهدوء يخدم مصالحها أيضا، ويعيد تسييل المساعدات القطرية ويمهد للتوصل إلى اتفاق تهدئة جديد بدلاً من القديم، لأن حماس تريد عن طريق قطر اتفاق تهدئة جديداً تكون طرفا فيه مع حركة الجهاد التي عبرت عن رفضها لاحتكار حماس للتمثيل الفصائلي في غزة.
في حالة العودة إلى الهدوء مقابل الهدوء، فإن الوفد الأمني المصري سيعود مجدداً في جولة مكوكية لمحاصرة آثار زيارة المندوب القطري العمادي الذي تحدث صراحة عن نيته فتح ممر مائي بين قبرص اليونانية وغزة لاحقاً، وهو ما تعارضه مصر بقوة، لأن هذا يدخل ضمن الخطة «ب» الخاصة بغزة في «صفقة القرن» وهي من بنات أفكار جاريد كوشنر الذي أوكل للعمادي هذه المهمة، أي التمويل وفتح الممر الذي أعلنت «إسرائيل» معارضتها المبدئية له رغم أن وزيري خارجية الاحتلال وقطر اجتمعا قبل شهور في قبرص لهذا الغرض.
فمصر تطالب بأن كل ما يخدم غزة يجب أن يتم على أرض غزة، لأنها كما السلطة الفلسطينية تعتبر ذلك تكريساً لانفصال غزة وإقامة دويلة هناك. وكذلك سيبحث الوفد المصري سبل العودة إلى اتفاق 2014 للتهدئة الموقعة بين منظمة التحرير و«إسرائيل» ومصر وفي هذه الحالة يكثف المصريون جهودهم للعودة إلى ملف المصالحة ودعوة فصائل غزة أولاً إلى القاهرة، لأن مصر ما زالت ترى أنه لا يمكن إنجاز تهدئة كاملة دون مصالحة داخلية فلسطينية حقيقية لإعادة تصحيح مسار القضية الفلسطينية.
hafezbargo@hotmail.com