الكاتب والمدينة
د. حسن مدن
حين أراد بياتريت سارلو دراسة أدب خورخي بورخيس، أولى عناية خاصة للتحولات، التي طرأت على مدينة بوينس آيرس عاصمة الأرجنتين بلد الكاتب. إن الباحث يحملنا، بطريقةٍ من الطرائق، على التفكر في علاقة الأدب المعاصر، والرواية بشكل أخص، بالمدينة، ونقول ذلك قاصدين للتمييز بين المدينة والريف أو الصحراء أو البحر.
لا يعني هذا أن الريف والصحراء والبحر لا تنتج أدباً، أو للدقة لا تكون موضوعاً للأدب. يكفينا تقديم نماذج من أدبنا العربي الحديث على ذلك. كتب عبدالرحمن الشرقاوي رواية «الأرض» عن معاناة الفلاحين المصريين من هيمنة الإقطاع وفظاعاته، ومن الرواية صنع يوسف شاهين فيلماً مهماً من بطولة محمود المليجي، نال المركز الثاني بين أهم مئة فيلم مصري خلال احتفالية مئوية السينما المصرية.
وعن الصحراء كتب عبدالرحمن منيف سداسية «مدن الملح»، كأحد أكبر وأهم الأعمال السردية العربية في القرن الماضي، كما كانت الصحراء الفضاء الممتد، المدهش والساحر والأخاذ، للمنجز الروائي لإبراهيم الكوني، وعن البحر كتب حنا مينه من الروايات أجمل ما كتب هو وأجمل ما كتب من روايات عربية كان البحر عالماً لها.
لكن هذا لا ينفي أبداً أن الرواية هي ابنة المدينة؛ من حيث هي جنس أدبي مستقل. ولعل العبارة الشهيرة لجورج لوكاش القائلة: «إن الرواية هي ملحمة البرجوازية»، تتصل بهذه الفكرة؛ كون نشوء الطبقة البرجوازية، ظاهرة مدنية بامتياز، وحين نشأت الرواية حلت مكان الملحمة في الآداب الأوروبية.
حسب واضع الدراسة عن أدب بورخيس فإن توسع مدينة بوينس آيرس جعل من التسكع ممكناً اجتماعياً، وقابلاً للتصديق بمعنى أدبي؛ ذلك أن المتسكع يمكن أن يلاحظ هذه التغيرات بالتحديق المجرد من الهوية لشخص لن يتعرف إليه أحد؛ إذ إن المجتمع لم يعد حيز الصلات المباشرة؛ بل صار حيزاً تنعقد فيه الصلات عبر وساطة مؤسسات وعبر السوق.
إلى ذلك ليست المدينة، أي مدينة في الغالب- خاصة إذا كانت عاصمة- مكاناً محدداً من نواحٍ عريضة؛ لكنها أيضاً كتل هائلة من البشر، أعداد لا متناهية من الحيوات، التي تعكس ما على سطح المدينة، وما في جوفها من متناقضات، من ثراء وبؤس، من أحياء فاخرة، ومن «شوارع بدون رصيف» على الجانب الآخر، حسب تعبير بورخيس نفسه.
بديهي أن يقفز إلى أذهاننا، ونحن نتحدث عن الرواية والمدينة اسم أديبنا الكبير نجيب محفوظ، الذي كتب القاهرة، كما لم يكتبها أحد سواه.
madanbahrain@gmail.com