الشعب مقابل الديمقراطية
تأليف: ياشا مونك
عرض وترجمة: نضال إبراهيم
العالم في حالة اضطراب.. فقد استولى الشعبويون السلطويون في عدد من الدول المتقدمة على السلطة؛ ونتيجة لذلك، الديمقراطية نفسها ربما تعيش في خطر الآن، وباتت ثقة الشعوب تتضاءل في السياسة. في هذا الكتاب، يرى المؤلف أن السياسيين يحتاجون إلى إجراء إصلاحات جذرية تعود بالفائدة على الكثيرين، وليس القلة؛ ويجادل بأنه من الضروري اتخاذ إجراء عاجل، لكن هذه هي الفرصة الأخيرة لإنقاذ الديمقراطية.
تشغل قضايا الديمقراطية والليبرالية والحركات المنبثقة عنها كالنيوليبرالية والديمقراطية اللاليبرالية حيزاً متزايداً بشكل غير مسبوق في أوساط المفكرين والمنظرين السياسيين والأكاديميين، خاصة لكونها باتت اليوم مسائل معيشة وملحّة تظهر العلاقات المتداخلة بين المركز والتخوم، وتفاعلات انتقال القوة بينهما. كما أن علاقة القوة أخذت تظهر بأوضح تمثلاتها عندما استطاعت التيارات والحركات الشعبوية أخيراً التحرر من القيود التي كانت مفروضة عليها منذ العقود التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية. وبدأت مفردات جديدة تطغى على الدراسات الأكاديمية والرصينة، التي تتقصى مسائل اجتماعية مؤثرة تتماهى مع الفكر السياسي بتنوعاته؛ من اليمين المتطرف حتى أقصى اليسار الراديكالي، خاصة في معرض تركيزه على مسألة ضرورة الحدّ من سيطرة القوى الشعبوية على مؤسسات الدولة، لا سيما في الولايات المتحدة.
يرى الأكاديمي ياشا مونك أن الديمقراطية والليبرالية ليستا مفهومين مترادفين، ويشير إلى أنه حريّ بالأمريكيين النظر إلى مثال كالهند. في كتابه الصادر حديثاً «الشعب مقابل الديمقراطية: لماذا حريتنا في خطر وكيف ننقذها»، يبدو مونك واعياً تماماً للكيفية التي وصل بها الغرب إلى «نقطة الانعطاف» الراهنة. وبتسجيله، خلال المحاججة التي يقدمها في دراسته، للعديد من الأسباب، يكتب أن ثمة مسافة قد انبثقت بين الحكومة ومن تحكمهم.
ويشير خلال توضيحه هذه النقطة إلى المفوضية الأوروبية، وهي سلطة بيروقراطية غير منتخبة تؤثر على حياة مئات الملايين من البشر. وبالعودة إلى المفهومين الرئيسيين في أطروحة ياشا مونك؛ الديمقراطية والليبرالية، يعود للتذكير بأنهما مفهومان غير مترادفين، وأنه في وجه النمو غير المتكافئ والعالم متعدد الثقافات، فإن من الوارد والمتوقع، غالباً، حصول احتكاك (أو ما هو أسوأ) بين هذين المفهومين. وهنا، يركز الكاتب على كون الشعبوية المنبثقة في أمريكا والمجتمعات الأوروبية الغربية هي أحد مظاهر هشاشة الديمقراطية الليبرالية.
يأتي الكتاب في 400 صفحة، وهو صادر في مارس/آذار 2018 عن منشورات جامعة هارفارد. ويضمّ مقدمة (خسارة أوهامنا) وثلاثة أجزاء رئيسية يشمل كلّ منها ثلاثة فصول: الأول: أزمة الديمقراطية: (1) ديمقراطية بلا حقوق (2) حقوق بلا ديمقراطية (3) الديمقراطية تنقسم. الثاني: الأصول: (4) وسائل التواصل الاجتماعي (5) ركود اقتصادي (6) الهوية. الثالث: علاجات: (7) تدجين القومية (8) إصلاح الاقتصاد (9) تجديد الإيمان المديني. بالإضافة إلى خاتمة: القتال دفاعاً عن قناعاتنا.
*هيمنة الديمقراطية الليبرالية وغياب البديل*
في مقدمة الكتاب، يسهب ياشا مونك في مناقشة كيف أصبحت «الديمقراطية الليبرالية مهيمنة، وبدا المواطنون ملتزمين في مواقفهم مع حكوماتهم. كان الاقتصاد ينمو، وكان دور الأحزاب المتطرفة هامشياً. اعتقد علماء السياسة أن الديمقراطية الليبرالية في دول كفرنسا أو الولايات المتحدة قد باتت مكرسة، وأنها لن تتغير إلا بشكل طفيف خلال السنوات التالية، وأن المستقبل لن يختلف كثيراً عن الماضي. ثم جاء المستقبل؛ واتضح أنه، بحقّ، مختلف كلياً».
ويتابع الكاتب فيرى أن «من أسباب سيادة الديمقراطية الليبرالية عدم وجود بديل متماسك في مواجهتها؛ الشيوعية فشلت، الثيوقراطية الإسلامية لم تكن تحظى بدعم كبير خارج الشرق الأوسط. كما أن النظام الصيني الفريد المتمثل برأسمالية الدولة تحت راية الشيوعية يبدو صعب التقليد في دول لا تتشارك بذلك التاريخ غير العادي. وبهذا، بدا أن المستقبل ينتمي بحقّ للديمقراطية الليبرالية».
كيف وصلنا لهذا المنعطف؟ يقول مونك: إنه «قبل ربع قرن، كان معظم مواطني الديمقراطيات الليبرالية راضين عن أداء حكوماتهم ومؤسساتهم. أما الآن، فهم مضللون. آنذاك، كانوا يرفضون البدائل السلطوية لأنظمة الحكم التي يعيشون في كنفها، أما اليوم فإن لديهم عداءً متزايداً للديمقراطية. كما أنه قبل ربع قرن، كان الخصوم السياسيون متحدين في احترام القواعد والنظم الديمقراطية، فيما الآن، اكتسب المرشحون الذين ينتهكون القواعد الجوهرية للديمقراطية الليبرالية السلطة والتأثير الكبيرين».
هذا المظهر يتجلى اليوم بوضوح من خلال وجود أشخاص مثل «دونالد ترامب في الولايات المتحدة، نايجل فاراج في المملكة المتحدة، فراوكه بيتري في ألمانيا ومارين لو بان في فرنسا. إذ يدعي هؤلاء أن الحلول الممكنة لأكثر المشكلات إلحاحاً هي أكثر وضوحاً وصراحة مما تصوره لنا المؤسسة السياسية. وبأن الكمّ الأكبر من الأشخاص العاديين» (الذين يشكلون الكتلة الشعبية) «يعرفون غريزياً ما يتوجب عليهم فعله. الخلاصة، إنهم يرون السياسة كمسألة بسيطة للغاية مفادها أنه إذا استطاع الصوت الشعبي أن يسود، فإن أسباب السخط الشعبي ستزول بسرعة. وبأن أمريكا (أو بريطانيا العظمى، أو ألمانيا، أو فرنسا) ستعود عظيمة من جديد».
ويخلص مونك في مقدمته إلى أن «صعود الديمقراطية اللاليبرالية، أو الديمقراطية بلا حقوق، ما هي إلا أحد جوانب السياسة في العقود الأولى من القرن الحادي والعشرين. إذ حتى مع تشكك الأشخاص العاديين (الكتلة الشعبية) المتزايد تجاه الممارسات والمؤسسات الليبرالية، فقد حاولت النخب السياسية عزل نفسها عن غضبهم. إنهم يصرون على أن العالم معقد، وأنهم عملوا جاهدين لإيجاد الحلول المناسبة. إذا أظهر الشعب نمواً جامحاً إلى درجة تجاهل نصيحة النخب، فإنهم إما مثقفون، أو متجاهلون أو واقعون للإخضاع».
دلالات الليبرالية
في الجزء الأول من الكتاب، يقول مونك: «إننا نعيش في عصر من اللايقين الجذري. ونطاق النتائج الممكنة هو اليوم أوسع بكثير مما كان يبدو لنا قبل عدة سنوات. كما أن التنبؤ بات أصعب من أي وقت مضى. ومع ذلك، فإن الافتراض الذي ضللنا – افتراض أن الأمور ستبقى على ما هي دائماً – يبقى هو الأكثر شيوعاً، حتى اليوم.
إذا أردنا تجنب أن نكون متفاجئين بالمستقبل كما كنا في الماضي القريب، فإنه أوان إعادة النظر بفرضياتنا الأساسية. هل تكون الديمقراطيات الليبرالية أقل ثباتاً مما افترضنا؟ وهل يقود صعود الشعبوية لتحلل نظامنا السياسي؟ وللتفكير بوضوح حول المخاوف التي تواجه الديمقراطية، إننا بحاجة إلى فهم ما تعنيه عناصرها التأسيسية. تبدو هذه المهمة معقدة بسبب حقيقتين:
أولاً، تحمل كلمة ليبرالية معاني مختلفة عند الحديث عن طبيعة مؤسساتنا السياسية. وفي معظم الوقت، خاصة في الولايات المتحدة، تستخدم كلمة «ليبرالي» للإشارة إلى وجهات النظر السياسية لدى الفرد: هناك ليبراليون ومحافظون كما أن هناك يساريين ويمينيين أو ديمقراطيين وجمهوريين. ليس هذا ما أعنيه عندما أتحدث عن الديمقراطية الليبرالية أو حين أستخدم كلمة ليبرالي. في هذا الكتاب، الليبرالي هو الشخص الملتزم بالقيم الأساسية كحرية التعبير، أو فصل السلطات، أو حماية الحقوق الفردية. وبالمعنى الذي أستخدم به الكلمة، فإن جورج دبليو بوش يبدو ليبرالياً بقدر باراك أوباما، ورونالد ريغان ليبرالي بقدر بيل كلينتون.
ثانياً، وبسبب هذه المكانة التي للديمقراطية، فقد وقعنا في عادة سيئة تدفعنا لتوسيع تعريفها لتشمل كل أنواع الأشياء التي نحبها. وكنتيجة لهذا، فإن جميع التعاريف الموجودة نظرياً للديمقراطية لا تتكبد عناء التمييز بين ثلاثة مفاهيم مختلفة للغاية: الليبرالية، الديمقراطية ومجموعة المؤسسات المفترضة تاريخياً التي اعتدنا عليها في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية.
في فقرة بعنوان فرعي «أنا صوتك. وكل شخص آخر هو خائن» يقول مونك: إن الشعبويين يدعون أن المشكلات السياسية الرئيسية يمكن حلها بسهولة. وكل ما يتطلبه الأمر هو الحسّ العام. فإذا كانت الوظائف تذهب إلى الخارج، فإن عليك حظر الدول الأخرى من بيع منتجاتها. وإذا تدفق المهاجرون إلى البلاد، فإن عليك بناء جدار. وإذا هاجمك الإرهابيون باسم الإسلام، فإن عليك حظر المسلمين. إذا فشل السياسيون العاديون في اتخاذ هذه الإجراءات المنطقية، فإن التفسير بسيط. عليهم أن يخدموا أنفسهم بمصالح خاصة أو أقليات إثنية.
التقنية الرقمية وانهيار حراس البوابات
يسلط ياشا مونك الضوء بتركيز على دور وسائل التواصل الاجتماعي في تحرير الحركات الشعبوية من القيود التي فرضت عليها خلال العقود السابقة. وهو يحاجج أن تعاظم دور الشعبويين والتمظهر الاجتماعي والسياسي محكوم بالقدرة على الوصول إلى الكتلة الشعبية من خلال هذه المنصات، وتأثيرها الاجتماعي. يقول: «لقد حدّت وسائل التواصل الاجتماعي من هذا القيد. إذ إنه على «فيسبوك» و«تويتر»، يمكن للمحتوى الذي صنعه أيّ مستخدم أن يعاد نشره بسرعة مع كل من يتواصل مع هذا المستخدم. وفي حال كان هذا المحتوى يتمتع بالجدّة الكافية أو كان مثيراً للاهتمام، فإن مستخدماً يحظى بعدد قليل من الصلات سيتمكن من الوصول إلى جمهور واسع خلال دقائق معدودة. وعبر إنشاء شبكة منتشرة من المستخدمين الذين يبقون على تواصل فيما بينهم، فقد غيرت وسائل التواصل الاجتماعي، بالتالي، آليات التوزيع… وبالنسبة للكلمات التي باتت اليوم تعدّ جديدة علينا مثل «ميم» (meme) فإنها تحظى بأهميتها في حياتنا اليومية ضمن عالم يمكن فيه لأي تسجيل شيء من خيال عدد من الأقران، ونشر عملهم مع جمهور من حول العالم».
ويؤكد الكاتب على دور هذه المنصات في نشر مقاطع الفيديو (كأحد أوجه المحتوى) الذي لم يكن متاحاً في السابق نشرها عبر الوسائل التقليدية، التي كانت تعمل ك «حراس بوابة» للتحكم في ما يبثّ للجمهور ويوجه له اليوم، باتت سلطة هذه الوسائط أقلّ تأثيراً لعدم قدرتها على حجز المحتوى الذي كان يُنظر إليه على أنه غير مرغوب أو غير مناسب، إذ وجد صنّاع هذا المحتوى وسائل جديدة ومنصات أكثر تأثيراً وقرباً من الناس، تصل إليهم بسهولة وإن لم يرغبوا في النفاذ إليها قصداً. وهذا، وفق تعبير الكاتب «له تأثير سياسي حقيقي وكبير. لكن هل سيمكن فقدان حراس البوابات لسلطتهم الناس العاديين من امتلاك القوة لتعزيز الديمقراطية – أم أن ذلك قد أضرّ أصلاً بالديمقراطية عبر تقديم المنصات للشعبويين لتسميم سياساتنا؟»
حماية الديمقراطية الليبرالية
«ثمة أسباب عميقة تجعل الشعبويين، على مر العقود، يحققون مثل هذا النجاح الهائل عبر أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية وما وراءها. وبرغم أن الخبراء في بعض الأحيان يحبون التركيز على العوامل المحلية، إلا أنه لا يمكن تفسير انتصاراتهم، في المقام الأول، بخصوصيات بلدان بعينها، أو حتى (افتقاد) الفطنة السياسية لمرشحين معينين. بل إنه بدلاً من هذا، أدى عدد من التحولات الهيكلية إلى إضعاف التزامات المواطنين بالمعايير السياسية التي طالما تبنوها: ففي العديد من البلدان، ظلت مستويات المعيشة للناس العاديين راكدة. لقد أعطى صعود وسائل الإعلام الاجتماعية سلطة أكبر ل«الغرباء السياسيين».
ومن الحلول العلاجية للحفاظ على الديمقراطية، يقول مونك: «للحفاظ على الديمقراطية، نحتاج إلى توحيد المواطنين حول فهم مشترك لأمتهم. وأن نعطيهم الأمل الحقيقي لمستقبلهم الاقتصادي، وجعلهم أكثر مقاومة للأكاذيب والكراهية التي يواجهونها على وسائل التواصل الاجتماعي في كل يوم. إنها هذه التحديات العميقة التي ستمايز قتالنا ضد الشعبوية، بغية الوصول لمجتمع أفضل في العقود القادمة».
ويخلص الكاتب في الخاتمة إلى أنه «من المستحيل توقع المصير النهائي الذي سيصبح عليه نظامنا السياسي». وبالنسبة لصعود الشعبوية يقول: «ربما سيتبدى صعود الشعبويين مرحلة قصيرة الأمد، سنذكرها بعد مئات السنين من الآن بمزيج من الحيرة والفضول. أو ربما سيتضح أنه تغيير تاريخي، يدل على نظام عالمي تنتهك فيه حقوق الأفراد عند كل منعطف ويتلاشى فيه الحكم الذاتي من على وجه الأرض. لا يمكن لأحد أن يعدنا بنهاية سعيدة. لكن أولئك الذين يهتمون من بيننا حقاً بقيمنا ومؤسساتنا مصممون على القتال دفاعاً عن قناعاتنا بغض النظر عن النتائج. ومع أن ثمار هذا الجهد قد تكون غير مؤكدة، إلا أننا سنتابع العمل لحماية الديمقراطية الليبرالية».
نبذة عن الكاتب
**ولد الكاتب والباحث الأكاديمي الأمريكي-الألماني ياشا مونك في ميونخ عام 1982 لوالدين بولنديين. يعمل مدرساً للنظرية السياسية في جامعة هارفارد. نشر الكثير من المقالات في مجال صعود الشعوبية وأزمة الديمقراطية الليبرالية. كما له ثلاثة كتب منشورة: غريب في بلادي (2015)، عصر المسؤولية (2017) والشعب مقابل الديمقراطية (2018).