قضايا ودراسات

دولة المواطنة ومجتمع المعرفة

الحسين الزاوي

يحرص كثير من الدارسين على ربط مصطلح مجتمع المعرفة بمفهوم المواطنة، انطلاقاً من فرضية أن مجتمع المعرفة يُسهم لا محالة في تعزيز الديمقراطية وحقوق المواطنة، ويدعم بشكل كبير دور المجتمع المدني الهادف إلى خلق نوع من التوازن في العلاقة ما بين الحكام والمحكومين، من خلال خلق قوة رمزية موازية لقوة السلطة السياسية التي تحتكر زمام اتخاذ القرار داخل مؤسسات الدولة والمجتمع.
ويذهب هذا التحليل إلى ربط مجتمع المعلومة والمعلوماتية بمجتمع المعرفة، الذي يُحدث بداخله انتشاراً وتدفقاً واسعاً للمعلومات، بفضل التقدم التكنولوجي الهائل الذي عرفته البشرية خلال العقود الماضية؛ تقدم أسهم في دمج المعارف بشكل أدى إلى قيام اقتصاد دولي شامل قائم على المعرفة، لكن السؤال المحوري الذي بات يطرح نفسه بإلحاح، هو: هل يعمل مجتمع المعرفة حقاً على دعم وترسيخ دولة المواطنة، أم إنه يدعم قيام مجتمع التقنية القائم على المراقبة؟.
ليس في استطاعتنا تقديم إجابة حاسمة عن هذا السؤال، لكن بالإمكان بلورة عناصر أولية من شأنها المساعدة على توفير فهم أفضل لعلاقة مجتمع المعرفة بدولة المواطنة، من خلال العمل بداية على توضيح النظام المفاهيمي الذي تستند عليه هذه العلاقة، لاسيما مفهومي المواطنة والمجتمع المدني، وذلك قبل الانتقال إلى الحديث عن التحولات التي يشهدها مجتمع المعرفة على المستوى الدولي، مع انتشار العولمة بكل أبعادها الحضارية والمادية.
يشير مفهوم المواطنة في بعده القانوني، إلى تمتع الأفراد بحقوقهم المدنية المرتبطة بجنسية الدولة التي ينتمون إليها، ونقصد بذلك في المرحلة الراهنة بحسب ما ورد في قاموس العلوم السياسية الذي أسهم برتراند بادي في تحريره الحق في الانتخاب والمشاورة السياسية، وفي الأهلية للترشح للانتخابات وممارسة الحريات العمومية، التي تعطي معنى للمشاركة السياسية، وأخيراً حق الوصول إلى وظائف السلطة داخل جهاز الدولة. ويختلف هذا المفهوم من الناحية التاريخية عن مفهوم الرعية الذي كان سائداً في الإمبراطوريات القديمة، التي كان الفرد مطالَباً في سياق سلطتها المطلقة، بالطاعة دون أن يمتلك الحق في المشاركة في تسيير الشأن العام، وتحديداً خلال القرون التي سبقت قيام الثورتين الفرنسية والأمريكية، اللتين أسهمتا بشكل واضح في تحقيق استقلال المجال السياسي عن المجال الديني، وذلك قبل أن يتطور المفهوم خلال منتصف القرن الماضي، ليُوسِّع مجال حقوق المواطنة لكي يشمل جزئياً المهاجرين؛ الأمر الذي أثار وما زال يثير الكثير من النقاشات الثقافية ومن التوترات «الهوياتية» التي تشهدها المجتمعات الغربية.
وفضلاً عن المعاني الإيحائية والرمزية لمفهوم المواطنة، من قبيل المساواة، والمسؤولية، واستقلالية الحكم؛ فإنه مفهوم يتجه في الغالب نحو جعل هوية المواطنة ميزة وخاصية مجردة وفضفاضة، تسكت عن أشكال انعدام المساواة التي نلفيها على مستويي الوضعيات الاجتماعية والمؤهلات السياسية.
أما بالنسبة لمفهوم المجتمع المدني الذي جرى تداوله بداية من القرن 18، فإنه يسمح بالتفكير، في سياق مقاربة فلسفية تُعطي أفضلية للحقوق الأساسية للشخصية الإنسانية، بناء على آلية تتجاوز الأفراد وتُفضي إلى الدخول في تعارض اجتماعي مع الدولة. كما يتمفصل المفهوم في نسق من التعارض المضاعف: من جهة أولى، الكلية في مقابل الأجزاء التي تتشكل منها (الطبقات الاجتماعية والفئات الاجتماعية والمهنية، أو السكانية)، ومن جهة ثانية، الغايات الاقتصادية والاجتماعية في مقابل الغايات السياسية.
وبالتالي؛ فإن المجتمع المدني له ممثلوه الذين يختلفون عن رجالات السياسة، والذين قد يدخلون في تنافس معهم، اعتماداً على ميزان القوة وعلى نموذج الحكم السائد في المجتمع.
وتكمن المفارقة بالنسبة لمعادلة مجتمع المعرفة في علاقته بدولة المواطنة، في أن مجتمع المعلومة والمعرفة الذي يصفه البعض بمجتمع المراقبة، لا يكرس بالضرورة قيم المواطنة ولا المبادئ التي يدافع عنها المجتمع المدني؛ بل إن مجتمعاً كهذا من شأنه أن يُسهم في نشر منطق الإقصاء الاجتماعي وفي تمركز وسائل التواصل، وفي تضخيم وزن ما أضحى يسمى بالسلطة الخامسة، التي ترمز للتأثير الهائل لمواقع الإنترنت، وفي هيمنة أسواق المال، وفي احتكار العلم الذي تمارسه المؤسسات العسكرية ومعها شركات صناعة الأسلحة، وذلك فضلاً عن العوامل الأخرى التي تجعل المجتمع يبدِّد طاقته الحيوية؛ إنه بكل بساطة «مجتمع» يدعم البناء الفوقي للمعرفة من الأعلى نحو الأسفل، ومن المركز باتجاه الهامش.
ومن الواضح أن مجتمع المعرفة الذي بات أقرب ما يكون إلى مجتمع الذكاء، يواجه الآن استبداد وتسلط شركات التقنية الكبرى، ولا يمكنه أن يخدم في صورته وتجلياته الراهنة، دولة المواطنة، كما يريدها ويدافع عنها المجتمع المدني.
وعلينا إذن كما تقول سالي بورش أن نراهن على مشروع مجتمع تُشكِّل فيه المعلومة ملكية عامة ومشتركة، ولا تكون فيه مجرد سلعة، ويصبح فيه التواصل مساراً وسيرورة للمشاركة والتفاعل، كما تكون فيه المعرفة بمثابة بناء اجتماعي مشترك وليس ملكية خاصة، وتصبح فيه أيضاً التكنولوجيا حاملاً وداعماً لكل هذه الأهداف والطموحات، من دون أن تتحوّل إلى غاية في حد ذاتها.

hzaoui63@yahoo.fr

زر الذهاب إلى الأعلى