قضايا ودراسات

أغلق الباب ثم اقرأ

يوسف أبو لوز

يقارن الباحث نوبوأكي نوتوهارا، بين طبيعة الشخصية العربية، وطبيعة الشخصية اليابانية، من زاوية هي المرة الأولى التي يمكن أن ننتبه إليها نحن العرب الذين يرتبط تاريخنا وتاريخ ثقافتنا بالشعر، أو ما نسميه «ديوان العرب».
يقول نوتوهارا: «مرة حدّثتُ شاعراً يابانياً عن أسلوب الأماسي الشعرية في البلدان العربية، فتفاجأ، وقال إنه لا يستطيع أن يقرأ شعره أمام الآخرين لأنه يخجل؛ ولأنه لم يفكر بالموضوع على هذا النحو مطلقاً».
ولكن كيف يقرأ الياباني الشعر؟
يلاحظ نوتوهارا، أن الياباني يقرأ الشعر في البيت، يضع نفسه في خلوة، يغلق الباب ويقرأ وحيداً. ومسألة إغلاق الباب هذه، في لحظة القراءة، هي ما يتوقف عنده العربي الذي يقرأ في الأمسيات، أو في السهرات الجماعية بصوت مرتفع.
يعلّق نوتوهارا أيضاً، بأن الياباني لا يريد أحداً بجانبه عندما يقرأ الشعر.. قراءة الشعر تعني الوحدة تماماً؛ تعني إغلاق الباب والقراءة كالهمس.. أو كالصلاة.
في الأمسيات الشعرية العربية، وخاصة في الستينات والسبعينات من القرن العشرين، عند صعود نجم ما كان يُسمى اليسار العربي المغلّف بالأيديولوجية الحمراء الكاذبة.. كان صوت الشاعر «يلعلع» على المنبر، وكأنه يريد أن يقود مظاهرة، وكان بعض الشعراء الذين ينفرون من هذه الحالة المنبرية الدعائية، يخجلون من كون الشعر يُقرأ بهذه الطريقة الصوتية الاستعراضية.
عموماً، لم يكن الشعر في يوم من الأيام، ومنذ سوق عكاظ وحتى اليوم خطابياً ومرتفع الصوت، وحتى القراءات النادرة أمام جمهور لبورخيس، وأراغون، ولوركا، وغيرهم من شعراء كبار، كانت قراءات عابرة ومقتضبة، يُخيّم عليها شكل من أشكال الصمت.. كأن قراءات من هذا النوع كانت تجري وراء أبواب مغلقة.
ذات لقاء على طاولة عشاء في إحدى العواصم العربية، كان أحد الشعراء العرب من أولئك الذين يقرأون شعرهم وقد أغلقوا الباب، يتناول طعامه بهدوء ويتحدث إلى مضيفيه في موضوع هو أبعد ما يكون عن الشعر، عندما قطع عليه أحد الشعراء الشباب طعامه وحديثه وصاح به: «نريد أن نسمع شعراً هيّا، اقرأ لنا شعراً.. اقرأ شعراً».
كنت أراقب وجه الشاعر الضيف، الذي أبعد بهدوء طبق طعامه وغرق في صمته العميق، بعدما وضع رأسه بين يديه، وقد ذهب في شروده إلى أقصاه، فيما تحوّل وجهه إلى قرص بشري أحمر.. ثم غادر.
إلى الآن، عندنا فهم خاطئ ليس لقراءة الشعر والإصغاء إليه فقط؛ بل وكتابته أيضاً.. والفهم الخاطئ للقراءة، أكثر فداحة من الفهم الخاطئ للكتابة.
الياباني يكتب قصيدة «هايكو» من أربعة أسطر ويكتفي بها، والبعض يكتب قصيدة من أربعمئة بيت.. ويقول: «لم أبدأ بعد!».

yabolouz@gmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى