قضايا ودراسات

توائم العولمة.. الفساد المتفاقم أحدها

جميل مطر

راح الانبهار وجاء وقت استيعاب حقيقة العولمة كمرحلة تحوّل تاريخي، جاء وقت التعرف على سلبياتها ونقاط عجزها، والبحث عن وسائل وعقائد وأفكار ومؤسسات تحتضن ما يصح التمسك به من قواعد العولمة، وترفض ما لا يصح منها ويكلفنا غاليا. كانت المرحلة فرصة لا تعوّض لكل من حرم طويلاً من حريات واعتراف بالحقوق أن يختار حلولا بديلة ويعبر عنها بطريقة أو بأخرى. هنا دخل العالم مرحلة ما بعد العولمة، مرحلة الأزمات المتعددة. رآها البعض مرحلة ضرورية لإعادة أمور إلى نصابها أي إلى ما قبل العولمة. أعرف كثيرين يريدون التفرّغ لوضع قواعد صارمة لمكافحة ما خلّفته العولمة: تحوّلت تطورات بدأت هادئة وعادية إلى مشكلات وثم إلى أزمات مثل أزمة الهوية. نراها ونتابع صداماتها في كلّ مكان، ابتداءً من أمريكا الترامبوية و«بريكست» تيريزا ماي ومثل أزمات الشعبوية، التي تجتاح أوروبا وأزمة النظام الرأسمالي، التي اجتاحت العالم بأسره.
لأغراض الحوار اخترت من هذه الأزمات أزمة الفساد المتفاقم. لا أقصد الفساد العادي، فالفساد لازمة من لوازم مجتمعات البشر، ولكن أقصد الفساد المتفاقم الذي صار نوعاً من الأزمات الحادة الممسكة بخناق الدول هذه الأيام. وبالفعل خنق دولاً بعد أن هدد استقرارها وأمنها، واستمر يضغط في دول أخرى ليمتص ثروات الشعوب ويقوّض إنجازاتها. أنا معنيّ الآن بالفساد المتفاقم في المنطقة العربية تحديداً، وبالفشل المتكرر لجهود مكافحته.
من الأمور التي أثارت اهتمام العالم بأسره، خصوصاً العالم الغربي مضاعفات أزمات الهويات في العالم العربي. لم يكن العرب وحدهم الذين دفعوا تكلفة العولمة بتجميد فعاليتهم وأدوارهم في تكتلات اقتصادية وسياسية. سبقتهم دول وشعوب وسط وشرق أوروبا حين أسرعت دول العالم الغربي ومؤسساته لجذبها بقوة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي. هذه الدول لم تجد الراحة أو الشعور بالاستقلال، خاصة هذا الأخير، بعد خروجها من مظلة الاتحاد السوفييتي وانضمامها إلى المظلة الأوروبية والأطلسية في بروكسل. لا نغفل أيضا الشكل الآخر الذي تمثلته أزمة الهوية في أوروبا عندما صوّتت أكثرية ولو ضئيلة في المملكة المتحدة للخروج من الاتحاد الأوروبي. اختارت الأكثرية نزع هويتها الأوروبية والعودة إلى الهوية البريطانية. هكذا فضّل البريطانيون استعادة هويتهم كمسألة رمزية مهمة عن الاستمرار في مشاركة النمو الاقتصادي والأمن الاجتماعي والسلم الإقليمي الأوروبي. هكذا فعلت معظم الأقليات العربية، بل والغالبيات العربية أيضا، حين فضّلت التنكّر للانتماء إلى الهوية العربيّة والتحوّل إلى الهوية الدينية أي هوية أخرى ما فوق الدولة الوطنية أو التحول إلى هويات تحت الهوية الوطنية أي هويات ثانوية مثل الهويات الطائفية والعرقية والمذهبية.
هنا بدت المفارقة مذهلة، ففي الوقت الذي بدت العولمة فيه وقد حققت أحد إنجازاتها الكبرى، وهي صنع أو دعم التكتلات الإقليمية، جاءت ردود الفعل سريعة في مرحلة ما بعد العولمة تضغط ضد هذه الإنجازات وفي مقدمتها الاندماج أو التكامل الإقليمي لصالح الانكفاء على الهويات الثانوية، هذه الهويات التي انتعشت في ظل دواعي العولمة المتناقضة مثل الدعوة للتكامل الإقليمي والاندماج تحت لواء العولمة مع الدعوة لتجديد مبادئ الحقوق الفردية والإثنية والطائفية وحرية التعبير والتجمّع.
يجب أن نعترف بأن حملات الكشف عن سلبيات العولمة ومكافحتها لم تمضِ دون مقاومة، بل إنها في أحيانٍ بلغت حدوداً قصوى من العنف وحدوداً لا بأس بها من الجهد الدبلوماسي والسياسي. أخذت المقاومة في شكلها السلمي، وإن كان مجهداً ومنهكاً نموذج الاستفتاء الشعبي البريطاني كسبيل لاستعادة الهوية الوطنية على حساب الهوية فوق الوطنية. وكانت نتيجة هذا العمل السياسي الذي أيّده الرئيس دونالد ترامب، الدخول في مفاوضات «بريكست»، وهي المفاوضات المعقدة التي انتهت بموافقة الاتحاد الأوروبي على خروج بريطانيا من أوروبا.
في الوقت نفسه، حاولت شعوب ودول أخرى التصدي لسلبية أخرى من سلبيات العولمة، مستخدمة العنف في أبسط درجاته، مثل الحراك الشعبي الواسع. وقع هذا الحراك كرد فعل لتفاقم الفساد في عدد من الدول العربية آخذاً شكل المظاهرات والاعتصام والثورة، وهو ما حدث في دول ما يسمى «الربيع العربي». هذا الحراك استولت عليه بعد قليل قوى ومؤسّسات وتيارات سياسية في هذه الدول ومن خارجها لتحويل مساره وأساليبه إلى درجة قصوى من العنف تبرّر ضربه بعنفٍ أشدّ. أخذ أيضا رد الفعل شكل الهجرات التي بدأت انفرادية وانتهت جماعية وبعضها استحق صفة الهجرات الانتحارية بمعنى أن الفرد العادي قرر أن يختار بين حياة أخرى في المهجر مهما كانت صعبة أو الموت كبديل مقبول لحياة قاسية.
من ناحية أخرى، لجأت قوى الفساد إلى شنّ حروبٍ إعلامية وسياسية ضد عمليات مكافحة الفساد خاصة في دول الفساد المتفاقم. واستطاعت هذه القوى بدرجات متفاوتة من النجاح أن تحقّق حالة من «استعصاء الفساد على الحل» ليس فقط في العالم العربي ولكن وربما أكثر منها في دول أخرى مثل البرازيل والفلبين والهند والصين وعدد كبير من دول إفريقيا.
جدير بالذكر في هذا المجال، الاعتراف بأن مؤشّرات غير قليلة تشير إلى أن إمكانات الحلف القائم بين أجهزة في الدولة وقوى الفساد المتفاقم على صعيد الإعلام الجديد، واستخدامات التكنولوجيا المتقدمة، صارت على درجة من الكفاءة تسمح لها بأن تثبّت دعائم مرحلة جديدة وطويلة من الفساد في أنحاء كثيرة من العالم، خاصة في الولايات المتحدة والصين كما في العالم العربي.

زر الذهاب إلى الأعلى