أوروبا و«السترات الصفراء»
نبيل سالم
تحاول الماكينة الإعلامية الغربية، بإمكانياتها الهائلة، أن تصور الأنظمة الرأسمالية الغربية على أنها واحة للسلام المجتمعي، والحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان والرفاهية، غير أن هذه الأنظمة بفلسفتها القائمة، على الرغم مما وفرته من هوامش للديمقراطية، أو الحريات العامة، فإنها تحمل تناقضات كثيرة تعِد بأزمات متلاحقة، هي في الواقع نتاج السياسات الرأسمالية التي تتبعها، والتي لن يبقى أثرها محصوراً في الدول الأخرى، وإنما على المجتمعات والدول الغربية ذاتها؛ أي أن الرأسمالية التي تصنع المشكلات لغيرها، سرعان ما تنتج مشكلاتها الداخلية أيضاً للأسباب ذاتها، وهي فلسفة الاستغلال، بما تعنيه من تجاهل للقيم الإنسانية.
ما قادنا إلى هذه السطور في الواقع هو الأحداث التي شهدتها فرنسا وهولندا وبلجيكا، أو ما عرف بتظاهرات أصحاب «السترات الصفراء»، الذين خرجوا خلال الأيام القليلة الماضية إلى الشوارع في احتجاجات تبدو متكررة، على الغلاء والضرائب ورفع الأسعار إلى آخره.. من المشكلات التي تنفجر في الدول الغربية بين حين وآخر، والتي غالباً ما تشكل المطالب الاجتماعية أساسها الأقوى.
فبالنسبة لأحداث العاصمة الفرنسية باريس، أو تلك التظاهرات التي شهدتها مناطق عدة في كل من بلجيكا وهولندا، نلاحظ أن ارتفاع الأسعار والظروف الحياتية الصعبة، شكلت القاسم المشترك لهذه الاحتجاجات، فعلى الرغم من أن تظاهرات «السترات الصفراء» انطلقت أساساً احتجاجاً على ارتفاع سعر المحروقات، لكنها سرعان ما اتسعت لتشمل النظام الضريبي ككل وتراجع القدرة الشرائية، فتحولت إلى موجة سياسية متباينة التوجهات والمطالب، على الرغم من أنها تندرج في سياق سيناريو الاحتجاجات الضريبية في هذا البلد، التي شكلت الأوضاع المعيشية جل أسبابها، وهو ما ينطبق على التظاهرات والاحتجاجات المشابهة في بعض الدول الغربية الرأسمالية الأخرى.
وتندد حركة «السترات الصفراء» التي تجمع فرنسيين من كل التوجهات السياسية والشرائح الاجتماعية، بغلاء الوقود، وارتفاع الضرائب، والمعاشات التقاعدية المتدنية، لتعكس بصورة إجمالية احتجاجاً رئيسياً هو تراجع القدرة الشرائية.
ويعبر كثير من المحتجين عن سخطهم للاستغلال الذي يتعرضون له، في بلاد تزعم احترامها وتقديسها لحقوق الإنسان، كما جاء على لسان أحد المتظاهرين الفرنسيين، عندما اتهم الحكومة بالسرقة، قائلاً: «إنهم ينتزعون منا كل شيء»، موضحاً أنه يعيش بخمسمئة يورو في الشهر، وهو أمر تؤكده أيضاً دراسة أجراها المرصد الفرنسي للأوضاع الاقتصادية؛ إذ تشير إلى تراجع الدخل السنوي للأسر الفرنسية بمقدار 440 يورو، بين 2008 و2016.
وفيما يقول الرئيس مانويل ماكرون، إن حافزه للزيادة هو الحفاظ على البيئة، يصفه المحتجون بفقدان الصلة مع سكان الريف الذين يحتاجون لاستخدام سياراتهم بشكل منتظم.
ومع أنه ليست هناك قيادة واضحة للاحتجاجات، إلا أن أحداً لا يستطيع إنكار أنها اكتسبت زخماً عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وجذبت إليها فئات مختلفة من الشعب الفرنسي، من أقصى اليسار إلى القوميين في أقصى اليمين، وهو ما استدعى إعلان حالة الاستنفار منذ بداية الاحتجاجات، التي أخذت أيضاً طابعاً سياسياً، واجتماعياً واسعاً؛ إذ ردد بعض المحتجين النشيد الوطني ولوحوا بالعلم الفرنسي، بينما رفع آخرون لافتات كُتب عليها: «ماكرون.. استقالة»، و«ماكرون اخرج».
وفي اعتراف بجدية وخطورة الاحتجاجات، طلب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من رئيس وزرائه إدوار فيليب، إجراء محادثات مع زعماء سياسيين ومتظاهرين بهدف إيجاد سبيل لإنهاء الاحتجاجات التي اجتاحت البلاد، لاسيما العاصمة باريس، على الرغم من أن الرئيس الفرنسي كان قد صرح بأنه لن يعطي شيئاً لمن سماهم ب«مثيري الفوضى»، في إشارة إلى حركة «السترات الصفراء»، مؤكداً أنه لن يساوي بين المخربين ومريدي الفوضى، والمواطنين المعبّرين عن آرائهم.
وبغض النظر عن أعمال العنف، التي أوقعت مئات الإصابات و المواقف السياسية التي رافقت الاحتجاجات في فرنسا أو غيرها من الدول الأوروبية مؤخراً، ومحاولة السياسيين الأوروبيين التقليل من أهميتها، فإن أحداً لا يستطيع إنكار أن هذه الاحتجاجات تشير إلى حجم المشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها المجتمعات الرأسمالية، على الرغم من محاولة الماكينة الإعلامية الغربية إخفاء هذا الواقع، وتصوير المجتمعات الغربية على أنها مجتمعات مثالية، والتغطية على ما تعانيه من أزمات وتفاوت كبير في الثروة.
وانطلاقاً من هنا، فإن حركة «السترات الصفراء» سواء في فرنسا أو غيرها في أوروبا، والتي نجحت في جمع مئات الآلاف من غير أن يكون لها زعيم سياسي أو قيادي واضح، تفتح فصلاً جديداً في تاريخ فرنسا الطويل في الاحتجاجات الشعبية، وربما في أوروبا بأسرها.
nabil_salem.1954@yahoo.com