الاختلاط بين السياسة والقضاء والإعلام
د.نسيم خوري
يتشبث بلبنان مثلث دائم الخطورة يتحاشر ويتخالط ويتناكف في زواياه المتساوية الأضلاع، معظم السلطات بتفرعاتها وأحزابها وطوائفها.
1 السلطات التشريعية والإجرائية التنفيذية والإدارات والسلطات القانونية والدينية، والتربوية والنقابية؛ حيث ملفات الفساد مفتوحة على مصراعيها إلى حدود التهديد اليومي بالإفلاس والسقوط الاقتصادي والمالي.
2 السلطات القضائية التي تجاوزت الملفات مقدراتها، وهي بطبيعتها تميل نحو التكتّم وعدم التوسع في الإعلان عن الجرائم، لعدم إثارة مزيد من الميول والشهية الإجرامية المتفاقمة في المجتمعات.
3 السلطات الإعلامية أو صاحبة الجلالة التي نزلت مؤخراً عن ظهور الأحصنة أو طلّقت مرتبتها الرابعة، وصارت تعشق المغالاة والنشوة في إظهار الجرائم والتلذّذ بالصور المرعبة والكوابيس، وتسابق سلطات «الماوس» في الزوايا والشقوق، بعدما نافستها حريات التعبير للجماهير.. إنه عصر الخلط الحقيقي بين حرية الشعوب في التعبير، وحرية السلطة المنضبطة والضابطة بالقوانين في ممارسة الحكم.
غابت برامج «التوك شو» كلياً لإشراك الجمهور في الإعداد والتقديم والمشاركات الحوارية، مع تقصي مضامين وسائل التواصل الاجتماعي، وابتكار «هاشتاجات» يتبادل الجميع عبرها أفكارهم وآراءهم. ذابت المسافات والفواصل بين العام والخاص، وبين الواقعي والافتراضي.
ويختلط المحلي بالإقليمي والدولي، إلى العجز عن الإحاطة والتقنين أوالضبط لاختلاط الخصوصيات بالعموميات، والسلطات بالشعوب والثقافات بالثقافات، وتعدد المعايير بما يجعل الأحكام مواد متنوعة جاهزة للتبجيل والتكريم والتعظيم، كما للطعن والتبخيس والتقريع في الوقت والمكان عينه، وهنا أمثلة ساخنة:
1 لم يبق سياسي أو إعلامي أو قانوني أو رجل قضاء، أو صاحب لسان وسبابة وخلوي في العالم زعيماً أو عادياً وضيعاً؛ إلا وتابع أوشارك جهراً أو همساً في التعليق والاجتهاد والتحليل والآراء والسيناريوهات، في مقتل الصحفي جمال خاشقجي. بلغ الأمر الذرى، حتى الطمس السحري الناعم المقصود لما علق بالحواس والنفوس والذاكرة من كوارث ومجازر ذابت كأنها أفلام سينمائية، حشت المخيلة البشرية بالعنف الذي نخافه ويريحنا ونرميه عند أبواب الصالات مشدوهين، لنلتهم ما تيسر بعجالة نتلمس سلامتنا، ونخلد إلى النوم بانتظار فيلم جديد.
2 ننزل من العالم نحو لبنان متسائلين: في 2005 اغتيل رفيق الحريري ومنه يدور لبنان ومعه كثير من الدول العربية والإسلامية والعالم، بين التيه والانقسام والتناقض لتخلط الحقائق بالأسباب وبالنتائج والتداعيات، والانقسامات المزمنة بين 8 و14 آذار، تغيب لتطفو صعوداً فوق قمم هذا الشهر الجميل بحثاً عمن يحسم أو يقرر.
لست نادماً في المجال عندما قلت: «لا تنتظروا المحكمة الدولية» في 9 سبتمبر/أيلول 2005 (منشور في مؤلفي: تفجير الحبر، ص: 171-176).
3 نصعد معاً إلى «الجاهلية» وهو اسم مسقط رأس الوزير السابق وئام وهّاب. طامح امتهن الصحافة/السياسة. أسس حزب التوحيد وذاعت صورته في البرامج السياسية الحوارية المثيرة للجدل، لجرأته وإلمامه بالأسرار وعفويته وسليقته الجارحة في تناول الأشخاص والملفات، وخصوصاً في فتح ملفات الفساد في لبنان.
صحيح أن جبل لبنان تجاوز المخاطر الأمنية والحرب الأهلية، كما قيل في الإعلام، بعد محاولة إحضاره بقوة عسكرية مؤلمة من منزله في ما سمي ب«غزوة الجاهلية»، للمثول أمام القضاء الذي امتثل بدوره لإشارة من سعد الحريري المكلف بتأليف الحكومة، والذي تناوله وهّاب إعلامياً، لكن الصحيح أيضاً أن الاستنفار السياسي والإعلامي في لبنان بلغ الذرى.
4 أعادت المحكمة توقيف الوزير اللبناني السابق ميشال سماحة (في 4 7 2016)، الذي يحاكم بتهم إرهابية بعد ثلاثة أشهر من إخلاء سبيله ومحاكمته بالسجن 4 سنوات ونصف السنة لاتهامات بنقل متفجرات وأعمال إرهابية، لكن الإخلاء لم يُرض الشارع اللبناني؛ نظراً لطبيعة «الجرم» الذي يحاكم عليه هذا الوزير.
تصاعدت الضغوط الشعبية والسياسية والإعلامية وشددت العقوبة الصادرة بحقه، وأعادته المحكمة إلى السجن وما زال. الأمثلة كثيرة.
أتضعف عدالة القضاء مثلاً، إن غاب الإعلام؟ وكيف يعالج الحكام حرية التعبير لدى الرأي العام المكشوف أمامه العالم مساحات للحرية، وهو الميال بالسليقة والحجج نحو الرفض والتحريض والتشهير، يحمي نفسه بتقاذف الحكام للتهم والشتائم والقتال؟ أتدفع حرية الإعلام القضاة للتروّي ومحاكمة أنفسهم قبل محاكمة الآخرين؟ وكيف نشرّع مقتضيات الحاجة في العلاقات بين أهل السياسة والإعلام والقضاء، ومن يحاكم من؟
تلك هي الأسئلة الجديدة في المثلث الديمقراطي المشوّه؛ تبحث عن مفكرين وعبر وخلاصات في لبنان والمحيط.