قنابل شتاينبك الموسيقية
د. حسن مدن
بالقياس إلى كتّاب آخرين، كجورج أورويل مثلاً، كان موقف جون شتاينبك من «المكارثية» أكثر نبلاً؛ إذ لم يكتفِ الأول بالموافقة على توظيف روايته «مزرعة الحيوان» في الحرب الثقافية الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، لدرجة أنها حولت لفيلم بتمويل من المخابرات المركزية الأمريكية، إنما تبرع بتزويد «المكارثيين» بأسماء نحو خمسة وثلاثين مثقفاً وأديباً زعم أن لديهم ميولاً يسارية، ليصبحوا هدفاً للمكارثية.
وثمة أقوال تحتاج للمزيد من التحري حول استخدام سومرست موم مكانته الأدبية كغطاء لمهمات المخابرات البريطانية في الحرب العالمية الأولى، وشيء مشابه قيل عن كومتون ماكنزي وجراهام جرين.
موقف شتاينبك جاء على هيئة نقد ذاتي قدّمه حين قال: «لو أننا قاومنا منذ البداية بدلاً من الهرب، لما كانت مثل هذه الأمور تحدث الآن».
لكن مؤلف «عناقيد الغضب» و«شتاء غضبنا»، و«في دمائهم قوة»، لم ينجُ، هو الآخر، من كبوة، لا بل فضيحة، أشدّ وأمرّ من تلك التي وقع فيها سواه، فرغم أنه عبر «في دمائهم قوة» قدّم معطيات مهمة حول المصائر المأساوية للعمال الزراعيين الذين قدموا إلى كاليفورنيا من الولايات الأخرى بحثاً عن العمل وبأدنى الأجور، فالمهم بالنسبة لهم إطعام عوائلهم وأطفالهم، وأظهر أيضاً التعاطف مع العمال الزراعيين في «عناقيد الغضب» التي يعتقد أنها كانت وراء نيله جائزة نوبل للآداب عام 1962، لم يظهر التعاطف نفسه، لا بل حتى ما هو دونه بكثير، تجاه مزارعي فيتنام الذين كانت المقاتلات الأمريكية تقصف قراهم وتوديهم قتلى وجرحى.
ليت الأمر وقف فقط عند حدود عدم إبداء التعاطف، بل إن شتاينبك الذي سافر إلى فيتنام لتغطية أخبار الحرب مباشرة من هناك، كمندوب لصحيفة «نيوز داي» في العامين 1966 و1967، وكان في الرابعة والستين من عمره، أظهر مقادير كبيرة، تبلغ حد الخزي، من التعاطف مع عدوان بلاده على الشعب الفيتنامي.
وبلغ به الأمر حدّ مرافقة أحد الطيارين على قاذفة كانت تلقي القنابل، ليكتب بعد ذلك مقالاً طويلاً وصف فيه قصف الآمنين ب «موسيقى عصرية»، وشبّه أصابع الطيار بأنامل الموسيقي، وبكلماته نقرأ: «كانت أصابع المقاتل الجوي تضغط على مفاتيح إسقاط القنابل مثل أصابع عازف البيانو الماهر الذي يعزف أعظم كونشرتو في العصر الحديث».
هذا الموقف الذي يطرح أسئلة كبرى حول ما يمكن وصفه ب «ضمير المثقف»، ألحق تصدّعاً كبيراً بسمعة شتاينبك، وبصورته كمبدع لروايات عظيمة، فتراجعت مبيعات كتبه، وأخذ الاهتمام به يتقلص.
madanbahrain@gmail.com