المدن المستدامة.. بيان للتغير الحقيقي
تأليف: بول تشاتيرتون
ترجمة وعرض: نضال إبراهيم
تشهد المناطق الحضرية في العالم مشكلات حقيقيّة بسبب جشع الشركات، وفقدان المساحات العامة، وأزمة عدم المساواة. ويسلط هذا الكتاب الضوء على كيفية دخول المدن في ممارسات غير مستدامة ومضرة، وإمكانية فتح طرق جديدة فعلية للتغيير الحقيقي نحو مستقبل أفضل. يستكشف بول تشاتيرتون تجارب المدن التي تسخّر القوة الإبداعية الجماعية، من خلال التركيز على خمسة محاور: التعاطف والخيال والتجريب والإنتاج المشترك والتحول؛ وأربعة أنظمة مدنية هي: التنقل والطاقة والمجتمع والطبيعة.
من المعروف أن أغلبية البشر على كوكبنا تعيش في المدن، وأنه خلال السنوات القليلة القادمة سوف يمثل المجتمع الحضري نحو ثلاثة أرباع إجمالي استخدام الطاقة وانبعاثات غازات الاحتباس الحراري. ويرى الكاتب أن «وراء هذه العناوين، جدول أعمال واضح ومقلق؛ وهو دعوة إلى العمل لبقاء نوعنا والحفاظ على الأنظمة البيئية التي نعتمد عليها».
ويضيف: «بالنسبة لأي شخص يتدخل في كيفية تكشف المدن في المستقبل، نجد أن هناك مجموعة كاملة من المشكلات المعقدة والمستعصية التي تتطلب اهتماماً عاجلاً مثل: مواجهة آثار تغير المناخ، والتكيف معه؛ التنوع الحيوي وحماية النظم الإيكولوجية؛ خفض الاعتماد على استخدامات الوقود الأحفوري؛ تأمين مستويات لائقة من الرخاء والرفاهية؛ معالجة حالات ظهور البطالة والفقر، وبناء المؤسسات التي تعمل على تعزيز وتمكين وضمان المساواة من حيث النتائج والإجراءات؛ معرفة كيفية تحفيز التغييرات في الممارسات الاجتماعية؛ حماية الأطفال والبالغين المستضعفين وإعادة توجيه العمل والتعليم نحو تحديات المستقبل؛ وتطوير التحولات المالية والمؤسسية والثقافية اللازمة لدعم ذلك كله».
«والمحير في هذه المسألة، أنه لا يوجد رأي متفق عليه بشأن المهمة المقبلة. ويتم تأطير التدخلات في تحديات المستقبل من خلال الطريقة التي نراها، والموجودة في العالم. فعلى سبيل المثال، تختلف وجهة نظر التحول الحضري وأولويات العمل من بنجلادش بشكل جذري عن تلك الموجودة في برادفورد، أو بوسطن. وبالنسبة إلى البعض، قد تعني تحديات الاستدامة الحضرية تجنب الموت على يد جيش الاحتلال، أو البحث عن الطعام والموارد الأساسية. بالنسبة للآخرين، قد يعني ذلك تحسين سلامة الطرق أو الحد من تلوث الهواء، أو استخدام البيانات لجعل المواصلات العامة أكثر كفاءة».
ويبرز الكتاب حقيقة أن إحدى المشاكل الرئيسية هي الطريقة التي نتناول بها الفكرة الحقيقية للاستدامة. «لقد أصبح مفهوم التنمية المستدامة مبتذلاً، بحيث بات بلا معنى. ويتعلق الأمر إلى حد كبير باستدامة الوضع الراهن من خلال سلة من الإصلاحات، وإيمان ساذج بقوة الترتيبات الاجتماعية – التقنية الجديدة. ولا يمكن تحقيق الاستدامة الحقيقية إلا من خلال تقصّ وبحث عميق وشاق، وإعادة توجيه المشروع العمراني السائد للأنواع البشرية خلال الرأسمالية المتأخرة في عصر الأنثروبوسين». (حقبة زيادة تدخل وتعاظم دور الإنسان في طبيعة الأرض مع زيادة المصانع وزيادة نسب الانبعاثات الصادرة منها).
نماذج عالمية
يشير الباحث والكاتب والناشط البروفيسور بول تشاتيرتون في مقدمته إلى العديد من المدن التي يمكن أن تقدم نماذج مستدامة، وتحقيق تغيير فعلي على أرض الواقع، يقول «في ديترويت وفيلادلفيا ونيو أورلينز، أنشأت مجموعات من الناس مجالس حضرية، وهي شبكة من الصالات للمقيمين الذين يسعون إلى التبادل الحضري. وفي ليفربول نشأت ورشة «جرانبي» من إعادة بناء الأحياء التي يقودها المجتمع المحلي وتصنع المنتجات التجريبية المصنوعة يدوياً. وفي إنديانابوليس، يأخذ الناس من أجل التقدم الحضري سلعاً غير مرغوبة، ويعيدون تدويرها لتحويلها إلى مواد تسهم في الخير العام. وفي بيركلي، تعد «هكر موم» أول فضاء للقرصنة مخصص للنساء، وهو فضاء مشترك للعمل على تقاسم الأدوات مع الصديقات المقربات، إلى جانب تبادل المعلومات ومناقشة قضايا المجتمع. وفي ليدز، يقوم «بلاي فول أني وير» باحتضان وتطوير وتصميم مشاريع تشاركية تضع الناس والتسلية في قلب المشاركة العامة والمكان. وفي مكسيكو سيتي، قام مجلس المجتمع المحلي لميرافال بتحويل شكل الساحات العامة المهجورة في الشركات المهمشة من خلال إنشاء مكتبات وغرف غداء ذات ميزانية منخفضة ومراكز صحية وترفيهية ومرافق إعادة تدوير».
ويضيف: «في دالاس، تقوم مؤسسة بتر بلوك بتطوير حلول مفتوحة المصدر لمساعدة المدن والجماعات المحلية والقادة الناشئين على إنشاء نماذج أولية سريعة في خدمة إيجاد الأماكن الإبداعية، ودعم الحياة العامة. وفي روتردام، يطور «بورفليرت» ملتقيات مؤقتة وخلاقة في المواقع المنسية ضمن المدينة، حيث يجمع الناس معاً للعمل الاجتماعي. وفي بيونس آيرس، خلق مجتمع «الكارتونيروس» (أو جامعو القمامة غير الرسميين) فرص عمل تعاونية مستقرة لأكثر المدن تهميشاً. وفي أوريجون، يشجع مشروع «مدينتك» على المشي لمعالجة الاعتماد على السيارات، وقد غطى نشطاء المجتمع المحلي المدينة بإشارات تروج لمسارات المشي وركوب الدراجات. وطورت «شبكة فانكوفر للفراغ العام» مشاريع لمعالجة الخصخصة المتزايدة في مجال الفراغ وتشجيع بدائل لها، مثل الحدائق المجتمعية والمجتمعات التي يمكن التنزه فيها، وأنشطة اللوحات الإعلانية».
«يمكن أن تستمر هذه القائمة من الأمثلة الملهمة. يحدث شيء كبير من دون أن يلاحظه أحد عبر المدن في جميع أنحاء العالم؛ فهناك عدد لا يحصى من المشاريع التي ينشئها الناس تعكس جميع مناحي وقطاعات الحياة، ولكن يواجهون خلالها العقبات. وبالرغم من الثقل الكبير لسلطة الشركات، وفقدان الحيز العام، والتسلسل الهرمي البيروقراطي، والتباينات المتأصلة، وحتى وجود الحرب والعنف، سيقوم الناس بإنشاء مشاريع تضع مؤشرات لعقود مستقبلية مختلفة جداً في المناطق الحضرية. فهم يطلقون العنان للطاقات الضخمة غير المستغلة للمدن المستدامة. قد تكون هذه الطاقات جزئية، وصغيرة الحجم وسريعة الزوال. وقد لا تحل الجهود المبذولة مشكلة الفقر أو عدم المساواة في المناطق الحضرية، أو تغير المناخ، إلا أنها تمثل كمية من الابتكار المدني، ويسعى القائمون عليها إلى تسخير الإمكانات أينما وجدوها. وهم يمتلكون فهماً سليماً وجذرياً، ونقداً لأساليب الأعمال المعتادة في التخطيط الحضري التي تدفع المدن إلى حدودها الاجتماعية والبيئية والاقتصادية. وهم متشككون في قدرة الإصلاحات التكنولوجية والحلول الرقمية الذكية بمفردها على إنقاذ المناطق الحضرية».
مدن بدون سيارات
يركز الكاتب في مناقشته على أربعة محاور تدور حول: المدن الخالية من السيارات، ومدن ما بعد الكربون، والمدن المدينة الحيوية، والمدينة المشتركة.
وفي الفصل الخاص بالمدن الخالية من السيارات، يستكشف الكثير من الأمثلة التي تشير إلى إطلاق نهج مختلف تماماً بخصوص التنقل، ويقول: «تزامناً مع وقف العمل بوسائط النقل التي تستخدم الوقود الأحفوري، نحتاج إلى فتح مدينة خالية من السيارات على نطاق واسع تحتوي على: ممرات للدراجات، طرق المشاة، وسائل النقل الجماعي السريع، وسهلة التوفر، وتصميم حضري للسيارات خفيفة الوزن وحياة الشوارع المتجددة. وعلاوة على ذلك، فإن الحاجة الحقيقية إلى مثل هذه الحركة الكثيفة تتطلب التقسيم والتخصيص.
وبمعزلٍ عن المركبات المزودة بالمحركات، فإن مجمل الفضاء الحضري الثمين بحاجة إلى إعادة التخصيص؛ لذلك لا يمكن فتح عقود النقل الآجلة البديلة إلا بالتزامن مع التحول في التخطيط، وتقسيم المناطق بحيث يؤدي ذلك إلى تضاؤل الحاجة إلى مجتمعٍ ضخم ومهدر؛ من الأحياء السكنية إلى مناطق العمل المركزية. وتحتاج المناطق الرئيسية إلى تقسيم، والعمل بدوره يحتاج إلى توزيع على نطاقٍ واسع، ثم المواد الغذائية، والترفيه، والبيع بالتجزئة بحاجة إلى إعادة البيع للسلع المستعملة وفصلها عن استخدام السيارات. وقد يبدو البدء بالسيارة محدوداً لكنه يشير إلى خطوات متعددة لإطلاق التغيير الحقيقي للمدن المستدامة».
ويضيف: «تعمل أنظمة المدن هذه معاً على وضع برنامج لفتح مدينة حيوية مبنية على أسس مشتركة، خالية من السيارات، وما بعد الكربون. ويعتبر هذا البرنامج خطة طموحة لكنها غير مكتملة تستكشف كيفية قيام المبتكرين بفتح المدن، بدءاً من الاعتماد على السيارات والشروع في التحول من المركبات التي تعمل على الوقود الأحفوري وصولاً إلى التمدن الخالي من الكربون، واستعادة الطبيعة الحضرية من خلال الابتعاد عن التصنيع المدمر للأنظمة البيئية، وإطلاق العنان للاقتصادات التي تلبي الحاجات المحلية للناس وتساهم في المشاركة الديمقراطية المتجددة».
مدن ما بعد الكربون
كما يتناول في الفصل الثاني، مدن ما بعد الكربون، ما بعد العصر الجيو سياسي للنفط والغاز والفحم، ويستكشف هذه الكتلة الجديدة من الطاقة الحضرية وكيفية البدء بالعمل في هذا الطريق الوعر؛ في ما يتعلق باتخاذ عمالقة الطاقة في الشركات إجراءات لضمان إزالة الكربنة بشكل جذري، وتحقيق المساواة، ويقول: «هذه ليست مجرد مرحلة انتقالية تخص التقنيات والبنية التحتية، بل هي عملية تتطلب إجراء تغيير واسع النطاق في الممارسات الاجتماعية والثقافية؛ فعملية خلق وتوفير الطاقة بحاجة إلى صياغة مجموعة مختلفة من القيم في مجتمعاتنا المملوءة بالطاقة وغير المتكافئة بشكل لا يصدق».
ويضيف على ما سبق: «ولذا فإن خفض وتقليص الطلب على الطاقة وإعادة توزيعها، وكذلك إعادة تنظيم هذه الطاقة تبقى من المواضيع الماثلة بقوة في جدول الأعمال في الوقت الذي تمهد فيه المدن الطريق أمام توفير الطاقة الخضراء لمواطنيها بأسعار معقولة».
المدن الحيوية والمشتركة
في الفصل الثالث الذي يتحدّث فيه عن المدينة الحيوية، يستكشف الكاتب إطلاق التوجهات الجديدة من خلال نهج جذري ناشئ للتعامل مع الطبيعة الحضرية، بما في ذلك استعادة الحياة البرية الحضرية، الزراعة المستدامة، حب الكائنات الحية، المحاكاة البيولوجية أو محاكاة الطبيعة، الزراعة الحضرية، المناظر الطبيعية الحضرية المنتجة باستمرار.
ويستكشف في الفصل الرابع فكرة المدينة المشتركة من خلال الابتكارات في مجال إيجاد الأماكن المجتمعية والاقتصادات والديمقراطية، معلقاً: «إن الأماكن المادية والأرض الفعلية والمناطق التي نعيش فيها ونشغلها تعطينا إحساساً بالمكان، وهي تحافظ علينا وتوفر لنا الرفاه والمأوى؛ ومع ذلك، فإن مسألة إيجاد المكان بقيت خاضعة لنظم التخطيط المجردة النافرة، والمشوهة بالسلوك البيروقراطي، وجشع الشركات وملكية الأراضي المركزة».
ويضيف: «علاوة على ذلك، فإن الاقتصادات الحضرية أصبحت، وبشكل متزايد، رهينة ل: كسب المال السريع، الاستثمار الداخلي المتقلب، هيمنة العلامات التجارية الكبرى، نظام عقود العمل الصفرية، تدني الأجور، وضعف المهارات وفرص التعليم. ومعظمها ليست موجهة نحو التحديات المقبلة، وبدلاً من ذلك تعمل وبشكل رئيسي على تغذية الاقتصادات والشركات غير المحلية عن طريق استغلال فائض القيمة من أماكنها الخاصة، وتجريد هذه الأماكن والاقتصادات من مواردها الأساسية خدمةً لاقتصادات أخرى. ولإبراز هذه النقيصة، نجد نماذج عدة من الحكومات والديمقراطيات الحضرية تتسم بعدم المساواة والتسلسل الهرمي في سلوكها بشكل كبير».
ويقول الكاتب في نهاية عمله: «على المستوى العملي، بالنسبة إلى المدن، هذه دعوة جادة لاتخاذ إجراءات جذرية، لفرض تغيير أساسي في السياسة الحضرية والمؤسسات والعمل. مدننا على مفترق طرق. وذلك يعني تحدياً للأجيال القادمة والفرص المتاحة أمامهم. لذا نحن بحاجة إلى أفكار وسياسات وإجراءات من شأنها إرساء قواعد مستقبل حضري مختلف عما هو عليه بصورة جذرية، أي تلك المبنية على المساواة والازدهار والاستدامة، وأيضاً تتصدى لحلول التحديات المعقدة المترابطة بشكل واقعي. مضيفاً: «لو تم إطلاق أي من هذه الإمكانات فعلينا أن نفكر بشكل كبير، ونعمل بهدوء، وننطلق فوراً. علينا ترتيب الأمور لمواجهة التحديات التي تعترضنا لتحقيق وتكرار هذا الإطلاق العظيم للاستدامة الحضرية الحقيقية».