جحيم النوايا الحسنة
تأليف: ستيفن م. والت
عرض وترجمة: نضال إبراهيم
في عام 1992، وقفت الولايات المتحدة في ذروة القوة العالمية، وكان الأمريكيون واثقين من أن هناك حقبة جديدة من السلام والرخاء في متناول اليد. لكن بعد 25 عاماً تحطمت هذه الآمال. فالعلاقات مع روسيا والصين توترت، ومع الاتحاد الأوروبي تتأرجح، وبدأت القومية والشعبوية تتصاعد، وأمريكا عالقة في حروب مكلفة وعبثية، أهدرت بسببها تريليونات الدولارات وقوضت نفوذها في جميع أنحاء العالم. النتائج، كما يقول مؤلف هذا الكتاب، مخيبة للآمال للغاية. لكن لماذا؟
على مدى ربع القرن الماضي، لم تكن السياسة الخارجية الأمريكية شيئاً إلا طموحاً يسعى إلى محاربة الإرهابيين ونشر الديمقراطية، لكن بدلاً من ذلك سعت إلى إسقاط الخصوم وتوسيع الضمانات الأمنية. يتناول الكاتب ستيفن م. والت، والذي يعدّ من المؤلفين الأكثر مبيعاً على قائمة صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية، في كتابه هذا (صادر عن فارار، ستراوس آند جيرو في 16 أكتوبر 2018 باللغة الإنجليزية ضمن 400 صفحة)، أخطاء السياسة الخارجية الأمريكية الأخيرة، موضحاً السبب وراء إصابتها بالكوارث مثل «الحروب الأبدية» في العراق وأفغانستان وتحديد ما يمكن القيام به لإصلاحه.
الهيمنة الليبرالية
إن جذور هذا السجل الكئيب، كما يقول والت، هو الالتزام العنيد لمؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية باستراتيجية «الهيمنة الليبرالية». فمنذ نهاية الحرب الباردة، حاول الجمهوريون والديمقراطيون على السواء استخدام القوة الأمريكية لنشر الديمقراطية، والأسواق، والقيم الليبرالية الأخرى في كل زاوية وركن من كوكب الأرض. كانت هذه الاستراتيجية محكومة بالفشل، لكن مؤيديها في نخبة السياسة الخارجية لم يخضعوا للمساءلة أبداً وظلوا يكررون نفس الأخطاء.
فاز دونالد ترامب بالرئاسة ووعد بإنهاء السياسات المضللة للسياسة الخارجية، واتباع نهج أكثر حكمة. لكن أسلوب حكمه غير المنتظم والمندفع، إلى جانب الفهم الخاطئ للسياسات العالمية، يزيد الوضع سوءاً كما يرى والت. وأفضل بديل، كما يقول، هو العودة إلى الاستراتيجية الواقعية المتمثلة في «التوازن خارج المجال» أو «التوازن في الخارج» التي تتجنب تغيير النظام، وبناء الدولة، وغيرها من أشكال الهندسة الاجتماعية العالمية. «من المؤكد أن الشعب الأمريكي سيرحب بسياسة خارجية أكثر تحفظاً، سياسة تسمح بقدر أكبر من الاهتمام بالمشكلات في الداخل. وسيتطلب هذا التحول الذي طال انتظاره التخلي عن البحث غير المجدي عن الهيمنة الليبرالية وبناء مؤسسة للسياسة الخارجية تتمتع بنظرة أكثر واقعية للقوة الأمريكية».
ويشير الكاتب إلى أن القوة الأمريكية سمحت لصانعي السياسة بمتابعة أهداف السياسة الخارجية الطموحة، حتى عندما تكون هذه الأهداف غير ضرورية أو محكوم عليها بالفشل. ومع ذلك، وعلى الرغم من العديد من النكسات، فإن النخبة السياسية الخارجية الراسخة تحتفظ بإيمانها بالهيمنة الليبرالية. يستكشف والت هذه الأفكار ويحدد الحالة لمقاربة جديدة للسياسة الخارجية الأمريكية على أساس الواقعية وضبط النفس.
يعرض والت الأفعال الداخلية لنخبة السياسة الخارجية عبر إدارات بوش وكلينتون وأوباما، ويظهر كيف تمكنوا من تجنب المساءلة، والحفاظ على الأفكار والسياسات المشكوك في صحتها، والحفاظ على النفوذ على الرغم من الأخطاء الفادحة الماضية. ويؤكد والت أن إخفاقاتهم المتكررة هي سبب كبير لانتخاب دونالد ترامب. ويقول إن الولايات المتحدة «تواصل تبني استراتيجية معيبة، لكن تطبيقها الآن في يديّ الرئيس الأقل كفاءة في الذاكرة الحديثة». ووفقاً لوالت، فإن رئاسة ترامب «تقدم طريقة حول كيفية عدم إصلاح الأشياء».
استراتيجية مضللة
يرى والت أن كلاً من الديمقراطيين والجمهوريين اتبعوا استراتيجية مضللة «للهيمنة الليبرالية». ويقول إن المصالح الأمريكية ستسير بشكل أفضل من خلال تركيز التزاماتنا العسكرية على الحفاظ على توازن القوى في أوروبا وشرق آسيا والخليج العربي، وبتجنب استخدام القوة لنشر الديمقراطية أو إملاء السياسات الداخلية للدول.
يؤرخ والت أيضاً عدم وجود تطور بين الصقور غير التائبين. فلا يزال ماركو روبيو يجادل بأنه «لم يكن من الخطأ الذهاب إلى العراق». وليندسي غراهام يلوم باراك أوباما على «الفوضى في العراق وسوريا، وليس الرئيس بوش».
ويشير والت إلى أن حرب العراق وآثارها كانت فشلاً من الحزبين، مهما كانت نبيلة (أو لم تكن) نوايا مهندسيها. على الرغم من أن جورج دبليو بوش كان رئيساً، إلا أن جون كيري وهيلاري كلينتون دعما الغزو. ثم قام كل واحد منهما بالفشل في الحصول على منصب الرئيس وخدم بصورة غير عادية كوزير خارجية.
يقدم والت رؤيته لما ينبغي أن تكون عليه السياسة الخارجية الأمريكية، بما في ذلك التوازن الخارجي، وإعادة الدبلوماسية، وجعل السلام أولوية. ويعاين الاعتراضات البارزة على هذه الأفكار ويدعو السياسيين إلى تقديم السياسة الخارجية التي يريدها غالبية الأمريكيين ويستحقونها.
مواجهة صعبة
يقول الكاتب: «في مارس 2013، دعاني أحد أفراد طاقم تخطيط السياسات في وزارة الخارجية للتحدث في الوزارة وطلب مني أن «أكون تحفيزياً». استجبت بغبطة، وعنونت كلمتي ب»لماذا تستمر سياسة الولايات المتحدة الخارجية بالفشل». تبعتها مناقشة حيوية وحامية لكنها ودية، وخطر لي لاحقاً أنه يمكن لملاحظاتي أن تشكّل أساس كتاب قصير. وقدّرت أن كتابته ستستغرق قرابة العام. وكما هي الحال لدى المسؤولين، من رجال ونساء، عن السياسة الخارجية للولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، فقد أسأت تقدير صعوبة المهمة التي قررت القيام بها. إلا أنه مع ذلك، فقد كانت لدي مسودة كاملة في أكتوبر 2016، وتوقعت أن يرى الكتاب النور قرابة أواخر السنة الأولى لهيلاري كلينتون في منصب الرئاسة. وفكرت أن التوقيت سيكون مثالياً، مع توقعي أن تكرر كلينتون العديد من أخطاء سابقيها، وأن تقديم النقد القاسي الموجه للاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة سيكون قيّماً وفي أوانه».
ويضيف: «كان الفوز غير المتوقع لدونالد ترامب في نوفمبر 2016 مفاجأة محرجة على أكثر من صعيد، لكنه كان أيضاً فرصة مثالية كي أختبر جوهر محاججتي بشأن نخبة أمريكا في السياسة الخارجية. إذ إن المرشح دونالد ترامب قد تحدى العديد من الأساليب الثابتة في السياسة الخارجية، كما أنه كان رافضاً ل (ومرفوضاً من قِبل) خبراء السياسة الخارجية الديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء. لكن عند تسلمه مقاليد السلطة، اكتشف ترامب أن التغلب على مؤسسة السياسة الخارجية كان أصعب بكثير مما توقع. إن أسلوب رئاسة ترامب مختلف بشكل واضح عن أسلوب أسلافه، كما أنه غيّر سياسة الولايات المتحدة بطرق عديدة مهمة، لكن ثورة السياسة الخارجية التي وعد بها في 2016 لا تزال غير متحققة».
في شكل ما، يعدّ هذا العمل استمرارية منطقية لبرنامج بحث بدأه الكاتب في الدراسات العليا بعنوان «في أصول التحالفات» (1987)، ناقش فيه بأن الفهم المناسب لأسباب التحالفات الدولية يمكنه تفسير لماذا كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها الرئيسيون أقوى بشكل واضح وكبير من الكتلة السوفييتية. وفي كتاب آخر له بعنوان «الثورة والحرب» (1996) استكشف التأثيرات الدولية للثورات المحلية وناقش فيه أن جهود الإطاحة بالقوى الثورية غالباً ما تساهم في إثارة العداء، وبالتالي فإن الحرب معها تصبح أكثر احتمالاً. وأوضح في كتابه «ترويض القوة الأمريكية» (2005) لماذا كان الأصدقاء والخصوم قلقين بشأن موقف أمريكا المسيطر بعد الحرب الباردة، وأظهر كيف حاولت دول أخرى مواجهة قوة الولايات المتحدة أو استغلالها بغية تحقيق مصالحها الخاصة. وناقش أنه كان بمقدور الولايات المتحدة تقويض مثل هذه الجهود عبر تبني سياسة خارجية أكثر انضباطاً واحترازاً. أما في كتابه «اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية للولايات المتحدة» (2007) أظهر مع جون ميرشماير كيف يمكن لجماعة مصالح محلية قوية أن تؤثر في السياسة الخارجية للولايات المتحدة بطرق مؤثرة، على حساب المصالح القومية الأمريكية الأوسع.
سياسات متوازنة
يسعى هذا الكتاب، بشكل خاص، إلى توضيح لماذا قضت الولايات المتحدة ربع القرن الماضي في السعي لتحقيق سياسة خارجية غير طموحة، غير واقعية وغير ناجحة في الغالب. كما أنه بعد الانتصار في الحرب الباردة وتحقيق موقع تفوق غير مسبوق منذ الإمبراطورية الرومانية، لماذا قرر قادة الولايات المتحدة الحفاظ على مؤسسة عسكرية حجّمت الآخرين وتوسيع شبكة متباعدة من الحلفاء، الدول العميلة، القواعد العسكرية والالتزامات الأمنية؟ بدلاً من الاحتفاء بهزيمة منافسها الرئيس كفرصة للتخفيف من أعباء أمريكا العالمية. لماذا شرع الديمقراطيون والجمهوريون سوياً في حملة متسرعة وغير مدروسة لنشر الديمقراطية، الأسواق والقيم الليبرالية الأخرى حول العالم؟ لماذا استمرت واشنطن بمواجهة النكسات المتكررة، وكيف أقنعت مؤسسة السياسة الخارجية الشعب الأمريكي بدعم السياسات التي لم تكن ضرورية ولا ناجحة؟
يرى الكاتب أن جزءاً من هذا التفسير يرتبط بالمزيج الأمريكي اللافت بين الثروة، والقوة والجغرافيا الملائمة. وبسبب أن الولايات المتحدة هي الدولة الأقوى، وبالنظر لكونها لا تواجه تهديدات في النصف الغربي من الكرة الأرضية، وهي محمية من بقية العالم بمحيطين كبيرين، فإن بمقدورها التدخل في مناطق بعيدة من دون تعريض بقائها المباشر للخطر. لكن هذا التفسير لا يلخص القصة بأكملها، لأن تلك الظروف الملائمة ذاتها تتيح أيضاً للولايات المتحدة تقليل الكثير من التزاماتها الخارجية وتركيز المزيد من الاهتمام على المشكلات والقضايا الداخلية.
«وبدلاً من اتباع استراتيجية كبرى أكثر انضباطاً، توجه قادة الولايات المتحدة للهيمنة الليبرالية بسبب اعتقاد منظومة السياسة الخارجية الأمريكية أن نشر القيم الليبرالية أساسي لأمن الولايات المتحدة، وسهل التنفيذ. لقد أقنعوا المواطنين العاديين بدعم هذه الأجندة الطموحة من خلال تضخيم الأخطار الدولية، والمبالغة بالفوائد التي يمكن للهيمنة الليبرالية تحقيقها، وإخفاء التكاليف الحقيقية. وبسبب أن أفراد نخبة السياسة الخارجية نادراً ما يتعرضون للمساءلة، فقد كان بمقدورهم ارتكاب الأخطاء عينها مرة تلو المرة».
رؤية جديدة
هذا الكتاب ينتقد بقوة مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية،ويرى أن نخبتها بمؤامرة من أشخاص مطلعين وذوي امتيازات من الداخل يسعون لزيادة ثرواتهم الخاصة على حساب الشعب.
ويشير إلى أن معظم الرجال والنساء الذين تم ذكرهم في الكتاب حاولوا تعزيز المصلحة الوطنية وفق منظورهم ورؤيتهم. لسوء الحظ، كانت الاستراتيجية التي اتبعوها بتلك الطاقة وذلك التفاني فاشلة في الأساس، وكانت أخطاؤهم جسيمة. وبرغم النوايا الطيبة التي لا شك فيها، فقد ألحقت نخبة السياسة الخارجية الأمريكية ضرراً كبيراً بالولايات المتحدة ذاتها.
في الختام يمكن القول إن الكاتب يهدف من وراء عمله هذا إلى إحداث ثورة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وتسريع مجيء اليوم الذي تتبنى فيه الولايات المتحدة سياسة خارجية تعزز حقاً أمنها وازدهارها، وتجعل القيم الأمريكية جاذبة أكثر للآخرين، وأن تصبح سياساتها أقرب لما يريده الشعب الأمريكي بحق، وأسهل للدفاع عنها داخل البلاد وخارجها.