حتى لا تتحول عين «التعاون» هاء
تصيب السياسة السعودية هدفاً استراتيجياً مهماً حين تدعو إلى إقامة ثلاث قمم في نهاية الشهر الجاري، للبحث في المستجدات الأخيرة التي بلغت ذروتها في الاعتداءين الآثمين على السفن الأربع بالقرب من المياه الإقليمية لدولة الإمارات، ومحطتي ضخ النفط السعوديتين، واستهداف الأراضي المقدسة، وكل ذلك من قِبل طهران والميليشيات والتيارات الإرهابية التابعة لها، بالإضافة إلى التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، وعلى وجه الخصوص الدعوة إلى قمة خليجية ضمن القمم الثلاث وهي المشمولة حُكماً في القمتين العربية والإسلامية، وإنما القصد الإصرار على مجلس التعاون كينونة ووجوداً ومصيراً. هذا التوجه مهم ومقدر، خصوصاً حين يأتي ومجلس التعاون لدول الخليج العربية ليس في أحسن أحواله، نتيجة عوامل عدة أولها سلوك قطر تجاه فكرة المجلس وهو سلوك يشبه «الانشقاق»، ولا علاقة خاصة لذلك بمواقف قطر بعد مقاطعتها من الدول الأربع الداعية إلى مكافحة الإرهاب، حيث تعود الجذور والأسباب إلى اشتغال قطري ممنهج ومخطط له منذ منتصف تسعينات القرن الماضي، وقد رأينا، بأم أعيننا، أسبابه المباشرة في ظروف وملابسات عامي 2013 و 2014 التي أحاطت باتفاق الرياض واتفاق الرياض التكميلي وإخلال الدوحة بتعهداتها، الأمر الذي أفشل مقاصد قمة «التعاون» في الدوحة ( 2014 ).
في تلك المرحلة بدأ الهجوم الإعلامي الشرس على كل من الرياض وأبوظبي من قبل سفهاء الإعلام القطري برعاية ودعم من قيادة وحكومة قطر، وقد وجب التذكير بذلك حتى لا يقال بأن مقاطعة قطر مقدمة لما بعدها، فالأصل الأقوى أنها نتيجة طبيعية ومنطقية للمقدمات التي سبقتها.
طيلة أزمة قطر، تمسكت السعودية وحليفتها دولة الإمارات بفكرة مجلس التعاون وأصرتا عليها، واستثمرتا كل مناسبة لصونها والدفاع عنها، لكن لا بد من الإشارة إلى تقصير الأمانة العامة لمجلس التعاون في تأييد ذلك القصد ودعمه، فقد كانت، للأسف، غائبة معظم الوقت، ولولا انتظام القمم الخليجية التي جاء بعضها نحو «استكمال الشكل» لنسي الناس أن هناك شيئاً اسمه أمانة عامة لمجلس التعاون. لكن هل بقي مجلس التعاون نفسه؟.. سؤال «استفزازي» بأسلوب أعداء المجلس أنفسهم بمرتزقتهم وأبواقهم الإعلامية، ويطرح هنا بقصد إثبات نقيض جوابهم كلما طرحوه. مجلس التعاون باق بقانون إنشائه أو وثيقة تأسيسه، وبالجهود المتعاظمة المبذولة من كل دوله، عدا قطر، للمحافظة عليه، باعتباره البيت والسقف والأفق الجامع، وباعتبار الحاجة إليه سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأمنياً، فحين يقال إن الخليج سفينة واحدة أو في سفينة واحدة، فالكلام يتجاوز العاطفة والنظر إلى العقل والفعل، ومن هنا التأكيد على أن استمرار المجلس ضرورة قصوى تستدعي العمل المدروس ولا تحتمل أنصاف الحلول.
قام مجلس التعاون، يوم تداعَى لتأسيسه الآباء المؤسسون، على عامل المشتركات المعلومة بين الدول المؤسسة، وقام المجلس نحو تلبية متطلبات أمنية واقتصادية واجتماعية ما زالت قائمة وإن تحقق بعضها بشكل ظاهر أو خجول، وقام مجلس التعاون على فكرة التدرج في تحقيق الأهداف والبناء على البناء، وأثبتت فكرة التعاون أحقيتها وجدارتها في محطات تاريخية لافتة على رأسها التصدي معاً للغزو الغاشم على دولة الكويت الشقيقة والأحداث الإرهابية التي حاولت النيل من أمن واستقرار مملكة البحرين الشقيقة خصوصاً في العام 2011 وما تلاها.
وإلى حد معقول نسبياً، مضى مجلس التعاون بخطى واثقة نحو تحقيق السوق الخليجية المشتركة والاتحاد الجمركي، وفي تحقيق المواطنة الخليجية، وقد تعدى ذلك الأنموذج النمطي متمثلاً في «يافطة» «مواطنو مجلس التعاون» في المطارات الخليجية إلى إقرار وتفعيل شراكات حقيقية كتنشيط التجارة البينية، والسماح بالتملك العقاري، ومعاملة المشتغلين لأنفسهم وكأنهم في دولهم.
لزم نحو تحقيق ذلك استصدار تشريعات ملائمة رتبت بيئة خليجية أكثر قدرة على تحقيق فكرة وأهداف مجلس التعاون، وذلك قبل محاولات تقويض فكرة ومنجزات المجلس من قبل فئة قليلة تنحصر في قطر ونظامها الشاذ عن إرادة المجموع، فلا خلاف بين السعودية والإمارات والبحرين حُكماً وقطعاً، كما أن دولة الكويت وسلطنة عمان مشمولتان حُكماً وقطعاً باعتبار المشتركات الكبيرة، وإن تعددت أو حتى اختلفت بعض وجهات النظر، فإن هذه ميزة تضاف فتضيف، وكان على دول المجلس استثمارها ولو في أفق توزيع الأدوار الذي هو عمل أساسي ومكمل في كل التجمعات والتكتلات الإقليمية.
الأمر ذاته يجب أن يقال عن العلاقة الاستراتيجية بين دولة الإمارات والمملكة العربية السعودية، وهي العلاقة التي تضيء اللحظة الخليجية الراهنة، ويمكن اعتبارها أنموذجاً مثالياً أو أقرب للمثال للعلاقة الخليجية الخليجية والعربية العربية، فليست إلا الرافد الذي يصب في بحر قوة مجلس التعاون وقوة الخليج العربي في الحاضر والمستقبل.
فهل يسمح أهل مجلس التعاون، والحالة تلك، للبعض القليل والمتخلف عن الركب، لأن يسهم، بقدر يقلّ أو يكثر، في تحويل عين «التعاون» هاء؟
نظام قطر يذهب، خصوصاً في الأسابيع والأيام الأخيرة، في شططه بعيداً، بحيث يجعل كلمة «مصالحة» كلمة مستحيلة لا يمكن أن تَرِد في أية سياقات أو سيناريوهات محتملة. هذا الاشتغال القطري على «اللارجعة» على الصعيد السياسي بل حتى على الصعيد الاجتماعي مؤسف حقاً، لكنه يخص قطر المأزومة نفسها، والأصل أن قطار مجلس التعاون يسير، وأن مسيرته تستلزم التفات دوله، أكثر وأبعد، إلى ما يجمع، وإلى المشتركات الكبيرة. والمطلوب حتماً من كل دول مجلس التعاون المحافظة على سفينة المجلس قوية متماسكة وعدم مجاملة قطر وهي تحاول شق صفه، مع اعتبار «مشكلة» مجلس التعاون إرثاً أصيلاً وجميلاً وباقياً وجديراً بالبقاء وبعيداً عن أزمة قطر.
وإذا كانت الحاجة إلى مجلس التعاون يوم تأسيسه في أبوظبي أو من أبوظبي في الخامس والعشرين من مايو/ أيار ( في مثل يوم أمس من العام 1981 ) حاجة ماسة، فإنها اليوم في العام 2019 كذلك أضعافاً مضاعفة.
لقد تغيّر الإقليم من حولنا كما تغيّر العالم، فأين نحن؟