سامي منسي
يصعب هضم عودة تكليف الرئيس سعد الحريري بتشكيل الحكومة العتيدة، بعد ما مر على البلاد والعباد من أحداث خطيرة وغير مسبوقة على الصعد كافة، منها الأمني والسياسي والمالي.
صعوبة التهليل لعودة الرئيس الحريري ليست بسبب شخصه أو زعامته المعترف بها من حلفائه وخصومه على حد سواء، بقدر ما تعود إلى استعصاء فهم غايات في نفس يعقوب الذي اختار الرئيس الحريري لهذه المهمة في هذا التوقيت، ولماذا؟
فالعجب أن الكتلتين الرئيستين صاحبتي الوزن والقرار في البرلمان، وهما كتلة «حزب الله»، صاحب السطوة، وكتلة نواب تيار رئيس الجمهورية التي – بحسب ما تدعي – هي القوة المسيحية الأقوى في البلاد، لم تسميا الرئيس الحريري، ووافقتهما في رفض هذا الاختيار كتلة «القوات اللبنانية»، وهي الكتلة المسيحية الثانية في البرلمان.
ما الذي طرأ وتغير منذ شهر إلى اليوم، حتى يقبل «حزب الله» – ومن دون أن يسمي – أن يشكل الرئيس الحريري حكومة اختصاصيين غير حزبيين ومن المستقلين، على ما أكده في كلمته إثر التكليف من القصر الرئاسي، بعد أن رفض وأجهض المنطق نفسه من الشخصية المستقلة مصطفى أديب، إبان تكليفها المهمة عينها، وبدعم فرنسي واضح عبرت عنه زيارتا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لبنان؟
قد تهدف هذه الخطوة المستجدة للسلطة الحاكمة والممسكة بأمور البلاد إلى أمور ثلاثة لا رابع لها؛ الأول هو القضاء نهائياً على أي معارضة سياسية وازنة، وذلك عبر تصفية ما تبقى منها بانضمام الحريري إلى صفوفها ومعه الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، وهو أمر يذكِّر إلى حد ما بالتسوية الرئاسية الفاشلة سنة 2016، والتي أتت بالعماد ميشال عون إلى سدة الرئاسة، ومن شأنه بحسب ما يعتقد أصحابه دعم هذه السلطة وتوجهاتها. والأمر الثاني هو خطورة تأزم الأوضاع المالية والاقتصادية إلى حد الاختناق القاتل، وحاجة السلطة سريعاً إلى مساعدات، حتى لو كانت مجرد ضمادات ومساعدات إنسانية لمنع الموت وإطالة النزع، إنما دون معالجة أسباب العلة والمرض. وفي هذا السياق، ينبغي ألا يغيب عن المتابع انخراط السلطة بتفويض من جماعة الحزب ومن وراءها في مفاوضات ترسيم الحدود مع إسرائيل، وحاجتها إلى نوع من الاستقرار حتى ولو كان وهماً.
إن وجود الحريري على رأس الحكومة حاجة لتحقيق أمرين معاً؛ لتغطية سنية لمفاوضات ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل، والحاصلة سلفاً على بركة «حزب الله» وحليفه حركة أمل. هذه المفاوضات التي قد تكون أيضاً من ضمن سياسة تكتيكية أو بعيدة المدى ينتهجها الراعي الإيراني مع واشنطن والغرب بعامة. من جهة ثانية، قد يسهل وجود الحريري على رأس الحكومة الحصول على المساعدات الإنسانية، بحسب ما يرشح عن الدول الداعمة للبنان، وعلى رأسها فرنسا.
وبلغ دهاء هذه السلطة حداً قياسياً أنها أتقنت توزيع الأدوار، وإخراج التكليف بما لا يحرج أحداً ويخدم جميع الأطراف المتآمرة. فـ«حزب الله» وحليفه «التيار الوطني الحر» نسقا تباينهما، بينما في الواقع حافظا على رفضهما معاً لتسمية الحريري، وفي الوقت عينه مررا تسميته رئيساً مكلفاً بأكثرية هزيلة. والغرابة أن يقبل رئيس مكلف تشكيل حكومة إنقاذ قادرة على انتشال البلاد، والقيام بعملية جراحية صعبة للإصلاح الاقتصادي والإداري والسياسي، بغالبية هزيلة وملتبسة.
إلى دهاء هذه السلطة والطبقة السياسية بعامة، يبرز وبشكل نافر وقبيح عمق الاستخفاف والتجاهل للحراك الشعبي المستمر ولو بوهن وتفكك. هذا الحراك – على الرغم من الهنات الكثيرة التي رافقته – أظهر معارضة ورفضاً شعبياً كاسحاً لهذه السلطة الوقحة التي تحاكي وقاحة الأنظمة المستبدة، البائدة منها والمحتضرة. فتزامن تآمر السلطة والطبقة السياسية مع الذكرى الأولى لانتفاضة «17 تشرين» بتكليف تشكيل حكومة جديدة للشخصية التي أسقطتها الانتفاضة التي لا تزال مصرة على مطالبها.
من دون أدنى شك، يبرز تكليف الحريري شكلاً ومضموناً تعثر الحراك الشعبي بالمسار الذي اعتمده حتى الآن، إنما أيضاً يظهر ما يدور في أذهان كثيرين شعبياً وعلى مستوى النخب، من غضب ممزوج بالحزن العميق واليأس من مآل الأمور، بعد كل ما مرت وتمر به البلاد وعلى مدى أكثر من نصف قرن.
بات اللبناني محتاراً بين وصف ما يجري بالكوميديا الهزلية أو بفيلم رعب مقزز، وفي كلتا الحالتين، الوضع الراهن يجهر بما يفكر فيه الناس ولو بشكل كاريكاتوري، بأن البلاد والعباد باتا بمثابة فندق ونزلاء أكثر من وطن ودولة ومواطنين.
ليس من المبالغة – ولو بشكل ساخر وبغصة في القلب – القول إن لبنان تحول إلى مساحة جغرافية لا أكثر، وهو ما سبق وكررناه في أكثر من مناسبة. مساحة جغرافية مستغلة أو مستثمرة من أطراف وجهات داخلية وخارجية في آنٍ واحد.
وليس من المبالغة المضحكة المبكية تشبيه لبنان بفندق، يوفر تقديمات كثيرة من المطاعم إلى الحانات إلى اللهو والتسلية، ومحلات بيع الهدايا والصحف، والتزيين؛ بينما اللبنانيون باتوا نزلاء هذا الفندق؛ بحيث عندما تزداد الخدمة سوءاً، يتجهون إلى «اللوبي» (بهو الفندق) للاعتراض على تدني أو سوء الخدمة، بينما القادر بينهم يغادر الفندق متى سنحت له الفرصة إلى مكان أفضل بلا ندم.
هذا التوصيف قد يحمل كثيراً من القسوة، إنما القسوة باتت ضرورة بعد كل ما نرى ونسمع ونعيش. لم تعد صفة الـمرونة «Resilience» أو «الصمود» حسنة من حسنات اللبنانيين؛ بل باتت لعنة سمحت باستمرار الحرب والمآسي والانهيارات لسنوات، وتشي الأمور والأحداث المتتالية باستمرارها لعقود أخرى، بينما الحلول باتت سراباً، وكل التسويات مشاريع لحروب وأزمات مقبلة.
هل من أمل في أن يتحول البلد من فندق إلى وطن، واللبنانيون من نزلاء إلى مواطنين؟ الإجابة تبقى متعذرة وسط كثافة الذكريات وخطورة المستجدات. أو أنه بالإذن من المؤرخ الراحل كمال الصليبي، بات فندقاً وليس «بيتاً بمنازل كثيرة».
* نقلا عن “الشرق الأوسط”