الهجوم على قيس سعيد: استفزاز أم تغطية على عجز
مختار الدبابي
باتت قناة الزيتونة رهان الإسلاميين، سواء من ممثلي حركة النهضة أو ائتلاف الكرامة، للتصعيد مع الرئيس التونسي قيس سعيّد. لا أحد يناقش حق هذا الطرف أو ذاك في التعبير عن مواقفه، لكن اللافت أن هذه القناة، التي لا تمتلك رخصة ولديها مشاكل لا تتوقف مع الهيئة التعديلية للإعلام السمعي والبصري (هايكا)، دأبت على رفع سقف الهجوم على الرئيس سعيد بدل النقد المعهود الذي يلتزم بأخلاقيات الصحافة وتقاليدها، وآخرها قراءة قصيدة مشحونة وإطلاق مواقف صادمة قادت مقدم البرنامج وأحد ضيوفه إلى الوقوف أمام القضاء، والضيف هو أحد نواب ائتلاف الكرامة ورئيس مكتبه السياسي قبل أن يستقيل ثم يعود إلى الواجهة.
ما يلاحظ أن البرنامج هدف منذ فترة إلى توجيه نقده بشكل مركز على شخص سعيّد ومحاولة المس من صفته الاعتبارية كرئيس جامع وحاصل على شعبية واسعة، والمعدون للبرنامج يراهنون على أن سعيد سيرد بسرعة على الاستفزاز، ويمكن أن يكون ذلك في خطاب أو كلمة.
وهذا الاستفزاز يعني تحقيق هدفين، الأول أن تظل أخبار ائتلاف الكرامة وحركة النهضة في الواجهة إعلاميا وسياسيا للتغطية على الاستدارة الرسمية والشعبية على منظومة ما قبل الخامس والعشرين من يوليو. والثاني استدراج سعيّد للردود المباشرة وإغراقه في التفاصيل، وتعطيل مسار اهتمامه بالقضايا الكبرى، أي الشروع في تشكيل حكومة، وضبط برنامج اقتصادي واجتماعي يذهب مباشرة نحو تفكيك الأزمات وتقديم الحلول.
وقد نجحت هذه الخطة خلال السنتين الماضيتين، حيث ظل سعيد في موقع الدفاع عن النفس، وتخصيص جزء من وقته للرد على الاتهامات التي تأتي من هنا وهناك، سواء في اجتماعات البرلمان، أو في برامج إعلامية، أو في تصريحات صحافية لهذه الشخصية أو ذلك الحزب.
هل يمكن أن يقبل الرئيس سعيّد بالاستمرار في هذه اللعبة، ويركز في كلماته على تقديم ردود لاستفزازات الخصوم، خاصة أن التصعيد المغالي في استهداف شخص الرئيس، ووصفه بألفاظ مستفزة خلال حملة واسعة ومنظمة على مواقع التواصل، قد جر القضاء للعب دوره والأمر باعتقال من تجاوزوا في حق رئيس الجمهورية.
وواضح أن هناك خطة تقوم على جر الرئيس سعيّد ومؤسسات الدولة السيادية لمربع معارك حقوق الإنسان، وتحويل صورة البلاد من دولة ساعية للخروج من نفق عشر سنوات من الفوضى والفساد واستباحة الدولة ومؤسساتها، إلى صورة الدولة البوليسية التي تطارد خصومها، وهي المعركة التي يتقنها الإسلاميون ولديهم فيها شبكات داخلية وخارجية، وهذا ما يفسر تحرك وسائل إعلام دولية ومنظمات خارجية لوضع أنفها في الملف التونسي عبر الشعارات المعهودة.
قد ينجح الإسلاميون في جر البلاد إلى هذا المربع، لكن الأمور مختلفة في 2021 عن سنوات ما قبل 2011، فسعيّد، ورغم أنه لا يمتلك خبرات في إدارة الدولة، ويقول على لسانه ما يفكر فيه بقلبه، ولا يحسب كثيرا في الحديث عن خصومه باعتماد ألفاظ قوية متجاوزا إتيكيت الحكم التقليدي، إلا أنه يتحرك ضمن أفق شعبي كبير لن يسمع إلا ما يقوله، ولن تؤثر فيه الإشاعات والحملات المركزة على مواقع التواصل.
ستستمر هذه الشعبية طالما استمر سعيّد في مسار انحيازه للفقراء والفئات الضعيفة، وهذا يتطلب أن تسرع المكلفة بتشكيل الحكومة نجلاء بودن بتقديم قائمة وزرائها في أقرب فرصة، وأن تتبنى الحكومة برنامجا واضحا تجاه القضايا الاجتماعية.
الناس لا يتأثرون بخطاب منظومة استمرت عشر سنوات وفشلت في تحقيق أي مكاسب ملموسة، لن يسمعوا لهم أبدا، كما أن المسيرات والمظاهرات تظهر أن الشارع التونسي مع مرحلة جديدة تبعث الأمل في مواجهة مرحلة مثقلة بفضائح الفساد وصراعات السياسة.
وبالتأكيد، فإن عودة قناة الزيتونة أو غيرها من المواقع الإعلامية المختلفة إلى أسلوب التهريج الإعلامي والصياح والتلويح بالتهم يمنة ويسرة لن تجد صدى لدى الناس، ومن يرددون وينشرون ما تقوله تلك البرامج هم جمهور النهضة وائتلاف الكرامة، ليس أكثر.
من الصعب أن تجد أحدا يحن إلى صراع الديوك الذي عرفه البرلمان وبلاتوهات التلفزيون، والذي شوه الثورة والانتقال الديمقراطي، وخلق رأيا عاما يريد أن يمحو المرحلة الماضية بجرة قلم بدستورها وديمقراطيتها وبرلمانها.
ولذلك، فإن الطريق واضحة بالنسبة إلى سعيّد أن يصم أذنيه على الشعارات والاتهامات ويبدأ في تحقيق مطالب الناس، وهي كثيرة وسقفها عال وتحتاج إلى تركيز شامل من الدولة. وبعد فترة من الآن سيمل الناس من تبرير التقصير أو التراجع بنقد المنظومة السابقة أو اتهامها بالفساد، ذلك أنهم أعطوا الرئيس سعيّد الشرعية والمشروعية بالانتخاب والمظاهرات من أجل أن ينفذ برنامجه ويحول انتقاداته للآخرين إلى أفكار نظيفة وفعالة على الأرض.
لقد استمع التونسيون لبعض الوقت إلى انتقادات منظومة 2011 للنظام السابق، لكن بعد فترة صاروا يقولون لهم: النظام السابق ذهب، وأنتم استلمتم الحكم، فماذا قدمتم.. لا شيء سوى الفوضى، وهذا أحد أسرار الدعم القوي للرئيس سعيّد، فقد وقف الناس على محدودية تفكير المنظومة الجديدة وعجزها عن الفعل واستغراقها في الخلافات، وسن قوانين ذات بعد سياسي وإغفال القوانين ذات البعد الاقتصادي والاجتماعي.
إن الشارع التونسي، خاصة الفئات المتضررة من السنوات العشر الماضية، من فئات فقيرة في الريف والمدينة، وعاطلين عن العمل وجزء كبير منهم من خريجي الجامعات الذين فشلت الدولة في تشغيلهم بالرغم من الوعود الكثيرة، يعرف أن الحملات الإعلامية على الرئيس هدفها منعه من التقدم إلى الأمام، ولذلك أفضل رد هو العمل على أسس واضحة ووفق أهداف مرسومة بعيدا عن الغموض وكثرة الوعود.
لم تكن فئات كثيرة راضية عن المرحلة الماضية بسبب استغراق أطراف المرحلة السابقة في بناء المنظومة السياسية، انتخابات وراء انتخابات، وصراع على المحكمة الدستورية، وخلافات حول أعضائها وأعضاء بقية الهيئات الأخرى مثل مكافحة الفساد أو هيئة الإعلام السمعي والبصري. ولهذا ليس مهما بالنسبة إلى الناس الاشتغال على تغيير النظام السياسي رئاسي أو برلماني أو مجالسي، فتلك تفاصيل تهم السياسيين، وقد يهتم بها الناس للحظتها، لكنهم سيسألون لاحقا: ماذا كسبنا من ورائها، ماذا حققت لنا؟
كما أن الهجوم على سعيّد، والتلبيس على المرحلة الجديدة، وإطلاق الأحكام الجاهزة على مرحلة لم يمر عليها سوى شهرين، هدفه التغطية على الأزمات التي تعيشها الأطراف المهاجمة. هناك تخوف لدى الإسلاميين، وخاصة حركة النهضة، من لحظة المساءلة لدى جمهورهم وأنصارهم عن سبب الفشل في المرحلة الماضية، بالرغم من أن الظروف كانت مواتية للحكم، والحركة استمرت في قلب السلطة لثماني سنوات.
ويمكن الرجوع إلى تصريحات عبداللطيف المكي التي كشف فيها تفاصيل كثيرة عن مستور رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي وكيف أن الرجل يمسك لوحده بالقرار دون التفات إلى المؤسسات التي تشكلت، تحت عنوان الديمقراطية الداخلية، لأجل مراقبة أداء الرئيس ومكتبه التنفيذي.
لقد سعى المكي لإقامة الحجة على الغنوشي وكشف خفايا تحركاته التي لا يراها الأنصار العاديون، خاصة ما تعلق بتراجعه عن تصريحات سابقة أكد فيها أنه لن يترشح للمؤتمر القادم، وأنه سيفتح الطريق أمام المؤتمر ليحدد خلفا له.
* نقلا عن “العرب“