مقالات سياسية

“داعش”… صعود البداية أم بداية الصّعود والانهيار؟

منير أديب

المتأمل في ما صار عليه تنظيم “داعش” يدرك أن وضعه بات أفضل حالاً مما كان عليه رغم سقوط دولته في منطقة الشرق الأوسط في 22 آذار (مارس) من عام 2019؛ فقد بات خطر التنظيم، رغم مرور ثلاث سنوات على انتكاساته، أكبر مما كان يشكله عندما كان يسيطر على قرابة 110 آلاف كيلومتر مربع، هي مساحة دولته التي ظل مسيطراً عليها قرابة خمس سنوات كاملة.

تنظيم “داعش” يتمدد بصورة كبيرة، ليس في منطقة الشرق الأوسط فقط، بل في قارة أفريقيا التي تمثل ملاذاً آمناً للتنظيم بعد ما تعرض له في الرقة والموصل، سواء على يد التحالف الدولي أم قوات الأمن المحلية في البلدان التي كان فيها. تمدد التنظيم يسير بوتيرة أكبر في قارة أوروبا أيضاً، وتحديداً في الشرق منها.

استشعر التحالف الدولي خطر “داعش” بعدما قلص نشاطه بسقوط دولة التنظيم، فعقد مؤتمره للمرة الأولى في أفريقيا بحضور قرابة 80 دولة وجمعية مؤسسة، مثل أغلبها وزراء الخارجية، وهو ما يشي بخطر التنظيم على القارة السمراء، فمنذ سقوط دولته وهو يبحث عن شكل جديد للدولة، وعن مكان يعلنها من خلاله، وقد وجد ضالّته في القارة السمراء لأسباب قد نذكرها لاحقاً.

وهنا حافظ التنظيم على بقائه، فرغم سقوط دولته بالكامل، إلا أنه لا يزال يعيش بيننا بخطره، وهو ما دفع المجتمعين قبل أسبوع لمناقشة هذا الخطر. صحيح جاء الاجتماع متأخراً، ولكنه خرج بتوصيات مهمة قد تقف أمام صعود التنظيم وتناميه وتمدده، سواء في أفريقيا أم في منطقة الشرق الأوسط.

الاستغراق بأن التنظيم لا يزال متقوقعاً في الشرق الأوسط يجافي الحقيقة؛ فهو يبحث عن عودة تعوّض خسائره ولا يزال مستمراً في محاولات العودة، وربما زادت بصورة كبيرة مع وجود خليفة ثالث للتنظيم هو أبو الحسن الهاشمي القرشي، وهو شخصية عسكرية تدرك ما تصنعه، فضلاً على أنه استفاد كثيراً مما حدث للتنظيم على مدار سنوات النشأة فتلافاه، وبالتالي بات التنظيم يشكل خطراً كبيراً، فالذين كانوا يتعاملون معه لم يدركوا بعد أنه تغير، وبالتالي لا بد من أن يترتب على ذلك تغيّر أساليب المواجهة.

أفريقيا كانت ولا تزال بمثابة الحديقة التي يتحرك فيها التنظيم، سواء على سبيل النزهة أم على سبيل الاستراحة، نظراً إلى ظروف القارة التي تختفي فيها مقوّمات التنمية، فضلاً عن ضعف أجهزة الأمن والاستخبارات بداخلها، وتضاف إلى هذا وذاك حرية التنقل بين بلدانها، وهنا يتحرك “الجهاديون” بحرية شديدة بين العواصم الأفريقية. هذه الأسباب مع عدم وجود موارد ولا خبرات حقيقية تؤهل للمواجهة الحاسمة مع التنظيم داخل القارة، جعل منها الحديقة الخلفية لدولة “داعش” المستقبلية.

بات سقوط أفريقيا يشكل خطراً جديداً ومتنامياً، بعدما أعلن “داعش” قيام ولاية لها في وسط القارة في نيسان (أبريل) من عام 2019، إذ أعلن تحالف ما يسمى بالقوى الديموقراطية في أوغندا مبايعته للتنظيم، وتحفّظ الأخير عن هذه المبايعة سنوات حتى وافق عليها بعد شهر من سقوط دولته، ويبدو أن الخليفة أبو بكر البغدادي كان يبحث عن انتصار للتنظيم في أفريقيا أو يُغير من تكتيكاته بعد خسارة دولته في الشرق الأوسط، فوافق على المبايعة ثم أعلن قيام الولاية بعد ذلك.

قبل “داعش” مبايعة تحالف القوى الديموقراطية في أوغندا ولم يكتف بذلك، ولكنه أعلن قيام ولاية له في وسط القارة الفقيرة، بعدما ضم إليها موزمبيق، وهنا بات التهديد أكبر وأخطر، ليس فقط على أمن القارة، ولكن على أمن العالم بأكمله، وهنا يمكن أن نقول إن التنظيم في مراحل عودته وصعوده من جديد ولكن هذه المرة من أفريقيا، ولعل هذا ما دفع التحالف الدولي إلى عقد مؤتمره للمرة الأولى في مراكش المغربية، كدولة أفريقية، وكأن التحالف يريد أن يقول: إننا نرصد الخطر بأعيننا ونتحرك إليها بسواعدنا، وها نحن الآن اجتمعنا بأجسادنا في إحدى دول القارة المهددة.

دائماً يتحرك المجتمع الدولي متأخراً، فكما تأخر في تدشين التحالف الدولي في نهاية عام 2014 أي بعد شهور من نشأة دولة “داعش”، ها هو الآن يتحرك لمواجهة خطر التنظيم في أفريقيا ولكن متأخراً أيضاً، بعدما نجح التنظيم في بناء قواعد له داخل القارة، فضلاً عن تراجع الجهود الرامية للمواجهة.

التنظيم يتحرك عبر استراتيجيات عدة، سواء في أفريقيا أو حتى في أوروبا، ولعله استفاد كثيراً من الصراع الأميركي – الروسي في أوكرانيا، ولعل هذا يُنذر بتنامي الحركة الجهادية في شرق القارة العجوز. التنظيم يلعب على التناقضات الدولية وعلى الصراع الدولي في الوقت نفسه، فقد استفاد كثيراً من فراغ المواجهة في منطقة الشرق الأوسط بعد انشغال واشنطن بمواجهة روسيا في أوكرانيا وانشغال الأخيرة بالمواجهة نفسها، فبات التنظيم يتحرك بصورة أكبر في سوريا نفسها.

لم تكن استفادة “داعش” من الصراع الدولي وانشغال القطبين الكبيريين بالحرب فحسب، وهو ما أثر في جهودهما في المواجهة، ولكنه استفاد أيضاً من دعوة كل منهما المقاتلين من المرتزقة في أوكرانيا أو ما أطلقا عليه متطوعين، وهنا تسربل “داعش” داخل أوكرانيا، وهو ما ينذر بإعلان ولاية له على المدى القريب في شرق أوروبا، وهنا سوف يستفيد من القارة الغنية وفي الوقت نفسه سيمارس ثأره وانتقامه من دولها التي شاركت في التحالف الدولي.

“داعش” لا يزال يمثل تهديداً لأمن العالم وسلامته، ولا تزال جهود مواجهته أقل مما ينبغي أن تكون، وهو ما قد يؤدي إلى ولادة جديدة للتنظيم. صحيح أنه لن يعلن عن قيام دولته بالصورة والشكل القديمين نفسيهما، كما كان في منطقة الشرق الأوسط، ولكنه حتماً إذا سارت الأمور على طريق التمدد نفسه من دون مواجهة حقيقية على مستوى الخطر نفسه، فسوف ينجح التنظيم في إعلان دولته عما قريب.

الفزع من إعلان “دولة داعش” الجديدة لا يفيد، والتقليل من الخطر لا ينفيه أيضاً، ولكن التعامل مع الخطر وفق استراتيجية تراعي هذا الخطر بعد أن تقرأه أمر في غاية الأهمية، وقد يؤدي إلى نتائج مثمرة ومرضية في الوقوف أمامه، على المجتمع الدولي أن يكون أكثر مرونة في التعامل مع الخطر وألا يكرر أخطاء المواجهة السابقة للتنظيم، وأن تكون المواجهة عبر الأرض بحيث لا يقتصر دورها على القصف الجوي فقط، فضربات السماء لا تقضي على خطر الأرض.

ما يمر به العالم حالياً بخصوص “داعش” قد يكون محيراً، ما التوصيف الحقيقي لصعود “التنظيم”؟ هل هو صعود مرحلي؟ أم أنه بداية الصعود أم هو صعود البداية؟ فكل إجابة تستلزم استراتيجية خاصة قد تكون مختلفة عن مثيلاتها؛ قراءة وضع التنظيم بدقة تساعد كثيراً في مواجهته، والتغافل عن الخطر هو بداية خطر الانهيار الحقيقي للدولة أمام التنظيم، فليس مفيداً وصف “داعش” بأنه في مرحلة الانهيار الأخير، لأننا نبني عليها نتائج، ولا بد من أن تكون النتائج دقيقة حتى تكون المواجهة ذات أثر ونتيجة.

ختاماً، التعويل على الجهود الدولية في مواجهة “داعش” قد لا يأتي بنتيجة، وإذا كانت فسوف تكون ضعيفة وبعيدة، ولذلك من المهم بذل الجهود من قبل محور المواجهة العربي لصد خطر “داعش” وعدم الاكتفاء بالدور الدولي “المفتقد”، فيجب التعويل على هذا المحور في المواجهة لا على المجتمع الدولي رغم الحاجة إليه، والذي تمثله مصر والسعودية والإمارات، حتى يمكن أن نطلق على هذه المرحلة بداية انهيار التنظيم لا قيام دولته.

* نقلا عن “النهار

زر الذهاب إلى الأعلى