أمن الوطن.. ودمار التعليم
عبد الله بشارة
عشنا منذ الاستقلال إلى الغزو في أحضان الاسترخاء الأمني، متسلحين بالنوايا الحسنة والقناعة بفوائد الدبلوماسية العروبية الناعمة في إدامة سلامة الكويت وتحصين سيادتها وتعظيم جذور مكانتها، متصورين أننا في بيئة إقليمية تثمّن سلوك الأخيار، الذي كان يتسيد الدبلوماسية الكويتية كنهج استراتيجي يصون الكويت من أزمات الجوار المضطرب.
قضى الغزو على قصور الدبلوماسية الأنيقة، التي بنتها الكويت واختارتها آلية للحماية ورادعة لتحرشات الجوار، وأعترف بأن الذي دفعني لتسجيل هذا المقال تمثل في حديث النائب الدكتور حمد المطر، المهتم بشؤون لجنة التعليم، والموجود في ملفاتها، داعياً إلى زيادة ميزانية التعليم بما يكفي على حساب ميزانية الدفاع التي طالب بتخفيض حقها في الميزانية السنوية، وأرى بأن هذه التمنيات تمس شيئاً حيوياً استوطن الضمير الوطني لجميع أبناء الشعب في الضرورة الملحة لتوفير الردع الآمن والضامن لمعيشة مطمئنة لا تعبأ باضطرابات الجوار، جاءت ترتيباته من مأساة الغزو ومن الغضب المدفون في القلوب والأحشاء، بعد أن حطم الغزو المفاهيم التي عشناها معتمدين على دبلوماسية العيش الآمن عبر سياج الأخلاق وقيم التآخي والاطمئنان لوضوح النهج الديني في رفض اللجوء إلى القوة ضد الطيبين المسالمين.
وجاء التحول بالتوقيع على هذه الشراكة الاستراتيجية باقتناع جماعي، يرافقه اليقين بأن الكويت التي ذاقت خيانة الترابط الأخوي، تتوجه نحو بناء منظومة أمنية حديثة محتوياتها آليات تكنولوجية مؤثرة بأسلحة متطورة مع معلقاتها من تهيئة جيش مدرب ومجهز بالابتكارات الفاعلة، مستنداً على رصد متواصل لتقلبات المنطقة ومتابعاً لما يدور في توجهات دول الإقليم ومعتمداً على معلومات تلتقطها مخابرات الشركاء.
ويعتمد هذا المنظور على استراتيجية دفاعية تخطط لجيش قادر على صد أي اعتداء لفترة أيام عدة، تمكن استحضار دور الشركاء المنخرطين في خطة تأمين الكويت والمتابعين لتفاصيلها والجاهزين لتنفيذها.
ولا ندعي القدرة بأننا نملك الإمكانيات لهزيمة العدوان من دون الشركاء في مجلس التعاون ومن دون وجود الحلفاء الاستراتيجيين، لكننا نترجم ما هو متوقع من الكويت ومن قوتها المسلحة، وهي القدرة على القيام بدور تطويق الحرائق، ومنعها من الاتساع، انتظاراً لوصول الرفيق والحليف ترجمة للمبدأ الذي قبلناه والموجود في جميع التحالفات بأن الشريك يحارب معنا ولا يحارب نيابة عنا، وأننا في شراكة مصير واحد أمام المعتدي، مندفعين بإيمان في قوة الترابط والمنافع التي تجمعنا.
ولا يمكن للكويت أو غيرها أن تفترض بأن الشريك القادم سيحل مكاننا وسيحارب في غيابنا، وإذا كان هذا التداخل المصيري مع التحالف يريحنا ويهدئ مخاوفنا، ونحن على قناعة به، فإننا يجب أن نقبل التبعات، وأبرزها، تشكيل جيش وفق هذه الاستراتيجية، معززاً بالجديد والمؤثر من أسلحة وآليات تكنولوجية، ومجهزاً بتدريبات، وعلى علم بالمطلوب، ومتفاعلاً مع محتويات الخطة. وبالطبع، فإن الدولة الكويتية المجروحة من تلك المأساة لن تتردد في توفير كل ما يمكن للوصول إلى المستوى المطلوب إعداداً وتدريباً مع توفير ماكينة السلاح من الجديد والفعال.
ولا يمكن التعذّر بالميزانية وتقلصها، فلا سقف يقف عند ضرورات الوطن، خاصة وأننا ودعنا القاعدة القديمة لعلاج الأزمات بلطافة المعشر، وأود التوضيح أن الهمة الوطنية المواتية لمعاني التضحية ودعت دبلوماسية الاسترخاء، واستجابت لمرحلة حديثة، يتفوق الأمن فيها على ما عداه من الأولويات، ونعلم أن أرضية الوطن غير الآمن لا تنجب تعليماً عالياً، فغياب الاستقرار المرتاح لا يولد مجتمعاً حيوياً ومنتجاً ولا ينعم بجيل شباب مسلح بالمواهب..
نحن نعيش في بقعة غير عادية، من دون استقرارها وهدوئها يضطرب العالم وتتسيد الفوضى اقتصاده، ويطفو التوتر على ترابط الأقاليم، وتتلاشى القوانين المنظمة لقواعد العلاقات بين الدول.
عشت تجربة الحظر النفطي في السبعينيات من القرن الماضي، ومررنا بمواجهات في الأمم المتحدة، وتصاعدت التهديدات وبرزت الهستيريا لأن الخليج، الذي فيه أكبر مخازن النفط التي تعتمد عليها الأسرة العالمية، أدخل السياسة في دبلوماسية النفط، فإذا توقف نفط الخليج فسيصاب الازدهار الاقتصادي بشلل، وتتوتر أرضية الأمن الجماعي، من تلك التجربة صار المجتمع الدولي يتابع أوضاع الخليج ويرصد التوترات فيها، ويسعى بحثاً عن حلول لمشكلاتها، ورغم ذلك لم تتبدل الصراعات بين القوى الداخلية في بعض الدول، ولم تهدأ منطقة الخليج منذ مجيء الثورات الأيديولوجية فيها.
وما يزعجنا أكثر ما يدور من مواجهات حول أوكرانيا، فالحرب بالوكالة بين موسكو وحلف الأطلسي لن تتوقف، ولن تسمح الدول الغربية للرئيس بوتين أن يخرج فائزاً في المواجهة، وليس هناك ضوء يؤشر لأمل في حل سلمي قريباً، وأخطر ما في هذه الحرب أن جميع الأنواع من الأسلحة الفتاكة موجودة من دون حظر على استعمالها، ولن يتردد أي طرف في الاستنجاد بأبشع الأسلحة في وقت الضيق والشدة.
نحن الآن في عالم مختلف سقطت منه جماليات ميثاق الأمم المتحدة، وخف بريق مبادئه مع قرار الرئيس الروسي غزو أوكرانيا، حيث أسقط الهيبة السياسية والمعنوية التي تتحصن فيها الأمم المتحدة، وتلاشت المعاني للقانون الدولي، وانحسرت الالتزامات بالاتفاقيات الدولية، واتسعت المواجهات بين موسكو وواشنطن، حيث خرجت من أوروبا إلى الشرق الأقصى، وحولت الأمم المتحدة لجانها إلى تجمعات عقيمة، فيها المبكي والمضحك، وفيها توقعات بالمزيد من المفاجآت القادمة من مختلف المسارات، فما كان محرماً صار مقبولاً، ووصلت إفرازات هذه المواجهة إلى قضايا الإقليم، وبشكل حاد، لاسيما توقعات العالم من الدور الخليجي لتوفير الطاقة، مع زيادة احتمالات الإرهاب، وتواصل الغارات بلا هوية على مناطق سوريا وشمال العراق، وسخونة الواقع في الضفة الغربية وغزة، بعد انشغال القادرين لوقف السخونة في قضايا الحرب في أوكرانيا وإسقاطاتها.
– من الملاحظات التي لا تغيب عن عيون زوار الكويت وما يثير استغرابهم غياب آثار الغزو ليس على المباني والبنية التحتية، وإنما عن استمرار الحالة الاعتيادية الحياتية كما كانت قبل الغزو، بما فيها غياب التوتر الأمني، فلا وجود للتجنيد المعبر عن إعداد جيش بأعداد تفي بالأغراض، وبتمارين على متطلبات التكنولوجيا العسكرية الحديثة، والمعنى أن الزائر لا يشاهد تحولات تعطي الأمن الأهمية القصوى.
فالمسؤولية باقية في إطار وزارة الدفاع من دون ضخ التثقيف التعبوي وتوفير الجاهزية للطوارئ.
كما أن المسيرة الأمنية لمجلس التعاون في ترجمة المسؤولية الجماعية للدفاع عن أمن الدول الأعضاء لم ترتفع إلى مستوى التحديات، ويبقى التحالف مع الشركاء الرادع المؤثر.
ورغم أن الكويت تمتلك نزعة انفتاحية رافقت تطورها، فإنها لم توفر النزعة نحو بناء جيش يتبنى عقيدة صد التحرشات لوقت تتحرك فيه الدبلوماسية الفاعلة، وآمل بأننا على الطريق لكن لم نصل للمرغوب فيه.
صرخة النائب حول التعليم لها مبرراتها، وتبقى حقائق الحياة بأن الوطن يرقى مع رساخة الأمن وتسيد الاطمئنان، فالمواهب تثمر في البيئة الآمنة.
* نقلا عن ” القدس “