نضال العضايلة
موقع رئاسة الجمهورية في لبنان هو أهم منصب يشغله مسيحي في الدولة اللبنانيّة، لا بل هو أعلى مركز لمسيحي في كل الدول العربيّة وفي كل المشرق. وبالتالي فإن أي تفريط به أو تهاون في آلية ملئه وإبقائه فاعلاً، قد يؤدّي إلى توجيه ضربة قاسية للوجود المسيحي في لبنان، وفي كل المنطقة.
وقد بات كل ما يتصل بالشأن اللبناني معلق على انتخابات رئاسة الجمهورية، حيث فُتح هذا الملف ليس فقط داخلياً، بل أيضاً على المستوى الخارجي وبوضوح لا سيما من خلال موقف السفيرة الفرنسية في بيروت آن غريو التي قالت ان على الأفرقاء اللبنانيين انتخاب رئيس على مستوى تحديات المرحلة، وان لبنان لا يشكل حالياً أولوية دولية.
وتحل الانتخابات الرئاسية هذه المرة في لبنان،وموازين القوى السياسية والطائفية في حالة خلل كبير،بعد تعليق زعيم تيار المستقبل الرئيس سعد الحريري حركته السياسية وعزوفه عن خوض الانتخابات النيابية الاخيرة، التي لم تستولد اي زعامة بديلة، ولم تؤدِّ إلى وصول نواب جدد مؤهلين لملء فراغ كتلة نواب المستقبل ولاسيما السنّة منهم، بل اوصلت نوابا من اتجاهات متعددة ومتعارضة، ولم تحقق التوازن السياسي المفقود، بل زادته اختلالا.
والسؤال المطروح حاليا، هل ستوصل الانتخابات الرئاسية، رئيسا جديدا للجمهورية ، قادرا على تجاوز الخلل بموازين القوى السياسية والطائفية الحاصل، وممارسة السلطة ضمن التوازنات المطلوبة، ام سيكون محكوما، للجهات والاطراف التي تسببت بهذا الخلل؟.
يشكل الموقف من حزب الله وسلاحه، تبايناً قوياً من تيارات مختلفة داخل لبنان، إلا أنها تتغير حيال قضايا خلافية أخرى، مثل انتخاب رئيس الجمهورية أو تشكيل الحكومة الجديدة، إذ انه من المتوقع أن تكون حركة «أمل» أقرب إلى الحزب التقدمي الاشتراكي منها إلى التيار الوطني الحر، بينما تلمح القوات اللبنانية إلى رفض الانضمام إلى حكومة وحدة وطنية مع حزب الله، وبدوره يرى حزب «الكتائب» أن بقاءه خارج السلطة أفضل من دخولها في هذه المرحلة، كما لن يتحمّل نواب «الانتفاضة» شعبياً تبعات انضمامهم إلى حكومة يقودها أحد أركان الطبقة السياسية.
شخصيات الصف الأول المرشحة لتولي منصب الرئاسة التي يجب أن تكون مارونية وفقا للتوزيع الطائفي لا توافقا على أي منها، بينهم زعيم التيار الوطني الحر جبران باسيل الذي شن هجوما مضادا حدّد فيه مواصفات الرئيس المقبل أن يكون ذات تمثيل شعبي مسيحي وليس فقط أن يتمتع بشرعية سنية أو شيعية.
والمطلوب ليس أن يكون رئيسا على غرار زعيم تيار المرده سليمان فرنجية الذي هو أيضا مرشح طبيعي مع زعيم حزب القوات اللبنانية سيمر جعجع.
وبدا واضحاً أن معظم سفراء دول الاتحاد الأوروبي لدى لبنان باشروا تحركهم باتجاه القوى السياسية الرئيسية لحثها على احترام المواعيد الدستورية وضرورة التقيد بها بانتخاب رئيس جمهورية جديد خلفاً للرئيس العماد ميشال عون الذي تنتهي ولايته في 31 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، وحذروا من الاستخفاف بأهمية الاستحقاق الدستوري، مما يعني أن ترحيل الانتخاب سيؤدي إلى فراغ قاتل يترتب عليه تمديد الأزمة التي تحاصر اللبنانيين.
واللعب بالاستحقاق الرئاسي لن يأخذ البلد إلى الفراغ فحسب، وإنما إلى المجهول الذي قد يترتب عليه إغراقه في دوامة من الفوضى، فالظروف التي كانت وراء استعصاء العماد عون على الدستور أثناء توليه رئاسة الحكومة العسكرية لم تعد قائمة ولن تتكرر بتعطيله لانتخاب رئيس جديد خلفاً للرئيس أمين الجميل.
ويرى اللبنانيون أن الاستعصاء على الالتزام بالدستور لجهة انتخاب رئيس جديد يعني بأن هناك من يخطط لاغتصاب السلطة في لبنان، ما يلقى مقاومة دولية تتجاوز فرض كل أشكال الحصار على البلد إلى تعريض من يعيق عملية انتخابه إلى عقوبات.
نتائج الانتخابات النيابية التي جرت في أيار الماضي، لم تؤدي فقط إلى تمثيل القوى التغييرية للمرة الأولى في البرلمان، وإنما لكونها أتت بمجلس نيابي لا يخضع لسيطرة «حزب الله» ويشكل توازناً بين الموالاة والمعارضة، وهذا يعني أن معركة رئاسة الجمهورية تكتسب بُعداً سياسياً وتدور بين مشروعين لا ثالث لهما.
وأفرزت الانتخابات النيابية التي جرت في مايو/أيار 2022، كتلاً برلمانية عدّة متفرقة، أبرزها كتلة “الجمهورية القوية” (19 نائباً وتمثل حزب القوات اللبنانية)، “تكتل لبنان القوي” برئاسة باسيل (17 نائباً)، كتلة “التنمية والتحرير” برئاسة نبيه بري (15 نائباً)، كتلة “الوفاء للمقاومة” (15 نائباً وتمثل حزب الله)، “اللقاء الديمقراطي” (يمثل الحزب التقدمي الاشتراكي برئاسة وليد جنبلاط ويضم 8 نواب)، كتلة التغييريين (13 نائباً)، حزب “الكتائب اللبنانية” برئاسة النائب سامي الجميّل (4 نواب)، عدا عن الكتل الصغيرة التي تضم مستقلين، ومعارضين.
وتعجّ الساحة المحلية في لبنان بأسماء مطروحة للرئاسة، على الرغم من أنها لم تُعلن رسمياً بعد. يتقدّم هذه الأسماء رئيس “تيار المردة” سليمان فرنجية، حليف “حزب الله” الأبرز، كذلك ترتفع أسهم قائد الجيش العماد جوزاف عون الذي يُدرَج في خانة المقرّبين من الولايات المتحدة.
مع العلم أن قادة الجيش في لبنان يعدّون من المرشحين الدائمين لرئاسة الجمهورية، آخرهم في الحقبة الحديثة، إميل لحود (تولى الرئاسة بين 1998 – 2007)، وميشال سليمان (2008 – 2014)، وميشال عون، خصوصاً أن الواقع الأمني يحكم البلاد، والاستحقاق الرئاسي غالباً ما يتم بعد أحداث أمنية.
كذلك، يبرز اسم جبران باسيل صهر الرئيس عون، ورئيس التيار الوطني الحر، على الرغم من تراجع حظوظه بعد خسارته الأكثرية البرلمانية، كذلك يُطرح في السباق الرئاسي، اسما النائبين ميشال معوض ونعمة افرام، المنضويين في دائرة المستقلين المعارضين.
من جهته، يعتبر رئيس “القوات اللبنانية” سمير جعجع نفسه مرشحاً طبيعياً، لكنه يقول إنه منفتحٌ على الانسحاب لأي مرشح يلبي مواصفات حزبه.
والدعوة إلى جلسة انتخاب رئيس للجمهورية، تتوقف بشكل واضح على ما سيملكه الرئيس بري من معطيات وإمكانات لتأمين التوافق والتفاهم حول الاستحقاق، وبعدها لن يكون هناك عائق في الدعوة للجلسة.
الاستحقاق الرئاسي مرتبط أيضاً بتفاهم أو اتفاق دولي، تحديداً بين الأميركيين والإيرانيين و”حزب الله”، وسيكون الفرنسيون قناة الوصل مع الأخير، كذلك سيكون للسعودية دور أيضاً، بيد أن الجوهر الأساسي بين الأميركيين والإيرانيين.
المادة الـ73 من الدستور اللبناني تنص على أنه قبل موعد انتهاء ولاية رئيس الجمهورية بمدة شهرين على الأقل أو شهرين على الأكثر، يلتئم مجلس النواب بناءً على دعوة رئيسه لانتخاب الرئيس الجديد.
وإذا لم يدع المجلس لهذا الغرض، فإنه يجتمع حكماً في اليوم العاشر الذي يسبق أجل انتهاء ولاية الرئيس، وتالياً، يعتبر البرلمان بعدها بحال انعقاد حكمي لانتخاب رئيس للجمهورية.
المادة 34 من الدستور اللبناني تنص على أن اجتماع مجلس النواب كي يكون قانونياً يجب حضور أكثرية الأعضاء، أي النصف زائداً واحداً (عدد النواب 128)، فيما تنص المادة 49 على أن رئيس الجمهورية يُنتخب بالاقتراع السري بغالبية الثلثين في الدورة الأولى والغالبية المطلقة في الدورة الثانية، وهنا الحديث عن نصاب التصويت لا الحضور.
وفي “حال حصول فراغ في سدة الرئاسة لمطلق سبب، تنتقل صلاحيات رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء مجتمعاً، سواء أكان بكامل المواصفات، أم عبارة عن حكومة تصريف الأعمال، وذلك عملاً بمبدأ استمرارية المرفق العام.
وبالعموم، هناك كم كبير من الثغرات الدستورية التي تستغلها السلطة لتنفيذ أجنداتها والاجتهاد تبعاً لمصالحها، وخصوصاً على صعيد غياب أي مهل ملزمة لانتخاب رئيس، أو على صعيد مدة التكليف المطلوبة لتشكيل حكومة، الأمر الذي يعبّد طريق التعطيل والفراغ الطويل.