التكنولوجيا…….. ومحنة النزعة الاستهلاكية
جمال الأسود
إن أسرتي وأهل بيتي ناس طيبون، اكتشفت ذلك عندما جالستهم ذات يوم انقطع فيه التيار الكهربائي وتوقف الحاسوب، بمقدار ما في هذه الطرفة من البهجة والمرح فهي تعبر عن مأساة إنسانية واجتماعية في منتهى الحسرة والألم، إنها تعبر عن بداية تفكك روابطنا الاجتماعية بشكل تلقائي ومؤلم، فنحن نستخدم الكم الهائل من الأدوات والآلات والأجهزة في حياتنا اليومية، ونقتنيها وهي مرفقة غالبا بدليل الاستعمال والصيانة، فالبعض منها سهل حياتنا وأضعف عضلاتنا، وبعضها الآخر أمتعنا ومنعنا من تطوير ذاتنا، لم نعد نستعمل عضلاتنا لإنجاز أعمال بسيطة فبدأت في الضمور، ولم نعد نستعمل أدمغتنا لضبط أبسط المعلومات والعمليات الحسابية فبدأت في الخمول، هل نطلب من الصناعيين أن يعدلوا من كاتالوغاتهم؟ مثلما فعلوا مع التدخين وعلب الأدوية من أجل حماية الإنسان من العبث بإنسانيته، هذا الإنسان الذي أضافت الآلة إليه غرائز صناعية أضعفت غرائزه الطبيعية، ومنعته من إعطاء الإحساس الجمالي بالحياة، وما تستحقه من شغف، إن الربوت الكامن فينا يعمل بفعالية عقلية تلقائية، ولكن يجب أن نعيش أيضا بعيدا عن سطوة هذا الربوت عندما نتحدث بشكل حميمي مع بعضنا، أو نسمع الموسيقى ونتجول ونمارس القراءة والرياضة، ونعمل في أريحية دون توتر، ينبغي أن نكون أشداء تجاه كل ما يضعفنا، بالانخراط الشجاع في الحياة، لا ينبغي أن نهزم بدافع حاجتنا إلى استعمال الآلة التي يؤدي إدماننا عليها إلى الانطفاء العقلي والخواء الروحي، إن ثمة ما هو إضافي وجديد ومثمر يمكن عيشه في هذه الحياة، ومعه ثراء الطبيعة من حولنا، الإعلام الجماهيري المتلاعب بعقول الناس يدفعهم إلى فقدان الاستقلال الذاتي، أنظر ترى نعم الهاتف النقال كيف حولها كثير من الناس إلى مآس.، وأنظر ترى الإعلان في التلفزيون يفتح شهيتك على أشياء لست في حاجة إليها غالبا، ويعرض عليك أكلة معلبة يقول أنها تشفيك من كل الأمراض، ويغريك من أجل تحضيرها بشراء المكرويف والريموت كنترول، ويجعلك تحتقر الفرن، والذي يعرض عليك البضاعة هي إحدى الحسناوات مما يمزج عندك البهجة بالاكتئاب، فيبدو لك بيتك قبيحا، وما في جيبك لا يسد الرمق، وتتكدر زوجتك بسبب العارض والمعروض، وتصاب بالهم وتنسى ما عندك من نعم، ليس من حق أحد أن يطالب بتوقف الإبداع والاختراعات، فتلك نزعة إنسانية وشغف غرائزي محمود أيضا، ولكن عليه أن يطالب بعقلنة الاستهلاك والتداول، فإدماننا اللاعقلاني على التكنولوجيا هو اعتداء على العقل والجسم معا، وهذه النزعة الاستهلاكية تمنعنا من التفكير الأعمق ومن مواجهة الحياة بعمقها الإنساني، يقول الفيلسوف ماركوز.. يستطيع المجتمع الاستهلاكي أن يبني نظام سيطرة كاملة، ولكن في النتيجة هو حالة من اللاحرية المريحة، إنها حضارة قمعية عن غير قصد، لأن التكنولوجيا فيها تسمح بإشباع الحاجات بدون ألم، ولكنها تمنع تطوير الإنسان لذاته، وهي صورة من صور ممارسة القمع الذي بتشاركه البسطاء من الناس مع مجتمعات السوق والوفرة والتكنولوجيا.