التنمية المستدامة تعامل واعٍ مع مشكلات العالم
أسفر انعقاد مؤتمر البيئة والتنمية (ريو دي جانيرو، 1992) عن تطور مفاهيم التعامل مع الجوانب الأيكولوجية (البيئية) من حياة عالمنا، وفي ضوء هذا التطور دخل إلى قاموس الجهود الإنمائية مفهوم التنمية المستدامة الذي ينصرف إلى أهمية التفاعل والتكامل والتداخل بين العوامل الاقتصادية- الاجتماعية وعوامل التغيرات البيئية، بكل ما تنطوي عليه من ضرورات الوعي بما أصبح يعتري النظام البيئي في كوكب الأرض من متغيرات.
ويأتي في مقدمتها ظاهرة – آفة ارتفاع درجة حرارة الكوكب نتيجة ارتفاع معدلات غازات الاحتباس الحراري ، فضلا عن ظواهر أخرى منها التصحّر والجفاف وموجات التسونامي المحيطية بكل ما ينجم عن هذه المستجدات الكوكبية من نتائج تؤثر على حياة البشر من جيل إلى جيل.
من هنا أصبح من الأهمية بمكان تدارُس مفاهيم التنمية المستدامة من منظور دورها الحيوي لأجيال الحاضر والمستقبل، وهو ما اضطلع به البروفيسور جيفري ساكس عبر صفحات هذا الكتاب، ولكن بأسلوب يجمع بين بساطة العرض وعمق المحتوى العلمي.
وبما يوصّل رسالة التنمية المستدامة إلى الجمهور المستهدف الذي يجمع بين راسم السياسة وصانع القرار وبين القارئ العادي، المسؤول بدوره عن التعامل الأرشد مع الموارد الطبيعية، وأيضاً مع المتغيرات التي لا تفتأ تطرأ على حركة الكوكب بالسلب أو بالإيجاب.
في عام 1945 وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، كما يقول تعبير البلاغة العربية. والحق أن كانت الأوزار عديدة بقدر ما كانت مريرة ومدمّرة. بعدها كان من البديهي أن تنصرف كل الأطراف إلى بذل كل ما يسعها من جهود لإعادة إصلاح وتأهيل ما دمرته السنوات الست التي شهدت دورة الصراع العسكري بين تلك الأطراف.
وفي غمار الجهود التي استقبلت العقد الخمسيني من القرن الماضي، بدأ عالم ذلك الزمان يسمع عن مصطلح كان مستجداً وهو التنمية.
يومها بدا أن المصطلح المذكور جاء ليحلّ محل مصطلح سابق كان قد تعارف عليه العالم وظل يتداوله ربما منذ القرن التاسع عشر، وهو مصطلح التقدم مقابل مصطلح التخلف.
ومنذ الخمسينات دلفت إلى متن الأدبيات السياسية- الاقتصادية مصطلحات من قبيل الدول المتقدمة النمو، والدول الآخذة في النمو، وأقل الدول نمواً فضلا عن محاولات شهدها العالم لتحرير وضبط هذه المصطلحات من خلال طرح المعدلات الرياضية واعتماد النسب المئوية واستخدام لغة الارقام لشرح هذه المصطلحات التي استجدت منذ منتصف القرن العشرين.
ويكاد يأبى القرن المذكور أن تنقضي أيامه قبل أن يضيف إلى معاجم الفكر السياسي- الاقتصادي مصطلحاً جديداً هو: التنمية المستدامة
ولقد ظلت دوائر الترجمة العربية بمنظومة الأمم المتحدة حائرة في أمر المصطلح المقابل في لغة العرب للمصطلح الانجليزي (Sustainable)، حيث اجتهدت دوائر شتى من مشارق الوطن العربي ومغاربه في التماس ترجمة المصطلح المذكور ما بين تنمية متواصلة أو تنمية متكاملة أو تنمية موصولة إلى أن اهتدت الدائرة العربية بمقر الأمم المتحدة في نيويورك، فكان أن طرحت لفظة مستدامة التي ما لبثت أن أساغتها ومن ثم اعتمدتها الدول والمجامع العربية.
وهناك عناصر مازالت تدفع كل الأطراف المعنية إلى القول إننا نعيش في عالمنا الراهن عصراً غير مسبوق من حيث مشكلاته وأوضاعه وأيضاً من حيث آماله وتطلعاته، وهو: عصر التنمية المستدامة. هذا هو بالضبط عنوان الكتاب الذي نعايشه في هذه السطور.
«جورو التنمية المستدامة»
وفيما يشكل العنوان، ومن ثم الموضوع، أهمية لكل من تعنيه الحياة فوق ظهر الكوكب، فإن هذه المسألة تزداد عمقاً واتساعاً عندما يكون مؤلف كتابنا هو البروفيسور جيفري ساكس الذي تطلق عليه المجامع الأكاديمية بل والسياسية في العالم الوصف التالي: «جورو التنمية المستدامة»، بمعنى العلّامة الفاهم، أو المرجع الثقة، أو الحكيم واسع الاطلاع.
ثم تزداد أهمية هذا الكتاب من واقع أن الذي كتب مقدمته هو بان كي مون، الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة، آية على أن المنظومة العالمية ترى في فصوله ومقولاته ما يفيد في دفع خطى التنمية المستدامة بعد فهم أبعادها ودفع مقاصدها إلى الأمام.
ولعل القارئ الواعي يدرك منذ اطلاعه على الصفحات الاستهلالية لهذا الكتاب مدى ما يصُدر عنه مؤلفنا من وعي إيجابي، بمعنى وعي لا ينقصه التفاؤل في التعامل مع مشكلات عالمنا الراهن: إن المؤلف يتعامل مع هذه المشكلات، لا من منظور قطري يقتصر على بلد هنا أو شعب هناك، ولا من منظور إقليمي يركز على هذه المنطقة أو ذلك الجزء من خارطة عالمنا، بل هو المنظور الذي يستحق وصف الكوكبي – منظور العولمة التي أضحت السمة الغالبة حالياً لحياتنا الراهنة.
أما في نظرته الإيجابية فإن الدكتور ساكس يحرص على التعامل بقدر من الرفق أو التفهم العلمي لمشكلات هذا العالم حين يطرح على قارئه التعريف المبّسط التالي لمبدأ التنمية المستدامة: إنها أسلوب التعامل الواعي مع شؤون عالمنا ومشكلاته ولكن دون أن ندمّر أوضاع ومواد وإمكانات هذا العالم المقدر أن يعيش فيه أطفالنا.
تركيبة من النظم المتكاملة
وحين يتعمق المؤلف إلى حيث يتفحّص هذا المفهوم للتنمية المستدامة، فهو يؤكد تعريفها على النحو التالي: إنها سبيل لفهم العالم بوصفه محصلة لتفاعل مركب من النظم – المنظومات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والسياسية، ثم إنه تفاعل لا يتوقف عند لغة بعينها أو ثقافة بذاتها، ولكنه نهج يربط بين اتباع الأسلوب العلمي وبين النظرة الأخلاقية التي تحدد هدفها متمثلاً في تحقيق الخير للبشر كل البشر في الحاضر وفي المستقبل.
هنا يطرح قارئ الكتاب سؤالاً بديهياً: تُرى: هل معنى ذلك أن عالَمنا – كوكبنا تُحدق به نهاية لا سبيل إلى تحاشيها؟
هنا أيضاً يسارع المؤلف، من واقع خبرته العميقة وتجاربه الحافلة فضلا عن نظرته الواعدة والمتفائلة إلى حيث يجيب قائلا: أنا مؤمن بقدرة التكنولوجيا على إنقاذ حياة البشر، ولكن دون أن يؤدي ذلك إلى تدمير لنظم حفظ ودعم الحياة فوق سطح كوكبهم العتيد، شريطة أن تتسلح الحكومات بالوعي والقدرة على تنظيم سبل العمل، وحشد الطاقات اللازمة للنهوض بهذه المهام. الطريق إلى إنقاذ الكوكب
يسوق الكتاب مثالاً مبسطاً على ذلك قائلا: نستطيع مثلا أن ننتج من زراعاتنا أنواعاً أكثر من الأغذية، لكن بفضل استخدامنا مقادير أقل من موارد المياه وأنواع المخصّبات.
ومثال آخر: نستطيع أن نولّد مزيداً من الطاقة، ولكن مع إحراق مقادير أقل بكثير من الموارد الأحفورية، التي تنفث غازات الكربون الضارة بالكائنات الحية من إنسان وحيوان ونبات. ونستطيع أن نوسع دائرة العدالة (الاجتماعية) بين سكان الارض، ولكن دون أن نضحي بإمكانات تحقيق النمو الاقتصادي، أو بمستوى كفاءة وفعالية هذا النمو المنشود.
وعند هذه المواضع من كتابنا، لا يتردد المؤلف أيضاً في الإحالة إلى، والاستفادة من دراسات وكتابات المفكر الروسي نيكولاي كوندراتيف (1892- 1938) الذي سبق أن بشّر – في أوج النظام السوفييتي الشيوعي- بما وصفه بأنه «السياسة الاقتصادية الجديدة» التي تشجع المبادرات الفردية، وخاصة حين أكد المفكر الروسي على أن مراحل النهوض الاقتصادي الشامل في عالمنا تحققت بفضل ما ظل هذا العالم يشهده من متوالية من التغيرات التكنولوجية: الآلات البخارية، السكك الحديدية، استخدامات الصلب والفولاذ، كهربة الأنشطة الصناعية، استخدام الكيماويات والسيارات وصولا (في زماننا وزمان مؤلفنا) إلى عصر الثورة الرقمية.
ومنه – كما يؤكد مؤلفنا في هذا الكتاب- إلى ثورة الاستدامة التي تجسده مفردات وتحديات ومنجزات النانو تكنولوجيا وأساليب ونتائج الزراعة الذكية (إنتاج أكثر بمدخلات مائية وكيماوية وبذْرية أقل) فضلاً عن موارد العالم الجديدة (غير الأحفورية) والمتجددة.
إضافة البعد الأيكولوجي
وبديهي أن عملية الانطلاق بالنسبة لجيل الناشئة وطلائع الشباب بمتابعة ما يتم على الصُعد الدولية والقطرية أيضاً، وبما يتيح اكتسابهم مزيداً من الوعي بواقع كوكب الأرض وبما يمكن أن ينتظر هذا الكوكب بكل مشكلاته وبكل طموحاته، خاصة وأن مشكلات عالمنا، ومن ثم مشكلات سكانه وأجياله، لم تعد محصورة ضمن إطار بعينه.
سواء كان اقتصادياً أو سياسياً بقدر ما أضحت هذه المشكلات متشابكة ومتداخلة، ومن ثّم فهي تقتضي حلولا متكاملة ومتآزرة، فضلا عما أضيف إليها اعتباراً من النصف الأخير من القرن العشرين من عناصر البعد الأيكولوجي، المتمثل في مشكلات البيئة وهي مشكلات تتسم – بحكم التعريف – بأن لها بعداً شاملاً بل هو بعد كوكبي على نحو ما أسلفنا في مستهل هذه السطور، مما يوسع آفاق أي حلول يمكن أن تتوصل إليها الاطــراف المسؤولــة ذات الصلــة.
وأخيراً يلاحظ قارئ هذا الكتاب أن المؤلف لم يقصر جهوده على سرد الحقائق وإطلاع القارئ على ما توصل إليه من نتائج أو تحليلات: الكتاب مزود أيضاً بعدد كبير من الرسومات البيانية والخرائط التوضيحية التي تقصد – كما نتصور- إلى مزيد من جلاء الحقائق والأوضاع التي ظل المؤلف يتعامل معها، وبخاصة تلك التي تتعلق بجوانب الأخطار البيئية المحدقة بكوكب الارض، ومنها مثلاً آفة الاحترار العولمي، التي لم تلق بعد ما تستأهله من اهتمام ينبغي أن تتسع آفاقه بحيث لا يظل مقتصراً على نخبة العلماء أو صفوة المتخصصين، بقدر ما ينبغي أن تصل إيقاعاته، في الحال والاستقبال كما يقال.
إلى أوسع القواعد الشعبية، لا لمجرد تعزيز وعي الإنسان- المواطن العادي بأهداف التنمية المستدامة التي تدور عليها محاور هذا الكتاب، ولكن باعتبار أن هذا المواطن العادي – في ظل النظم الديمقراطية – هو الكفيل من خلال الانتخابات والاستفتاءات واستطلاعات الرأي العام باختيار رشيد للحكومات والبرلمانات المنوط بها في التحليل الأخير وضع رؤى وأجندة التنمية المستدامة موضع التنفيذ.
تشخيص أمراض «الجنوب»
يكاد المؤلف يطلق العنان لرؤيته الطموحة التي تجمع بين الاستناد إلى الأسس العالمية التي أوصلت إلى تجديدات بل فتوحات الابتكار التكنولوجي، وبين قدراته على استشراف آفاق المستقبل من المنظور الشامل الذي يتجسد في ظاهرة العولمة .
مع ذلك، فثمة مواضع بعينها من فصول كتابنا تعمد إلى التعامل مع منطقة محددة من خارطة عالمنا: إنها قارة أفريقيا جنوبي الصحراء الكبرى، صحيح أن هناك من لايزال يسلكها، من منظور المؤلف، ضمن فئات عدم الاستدامة بمعنى أنها منطقة لم يقدّر لها بعد أن تعمل على اعتماد وتفعيل فكرة أو منظومة التنمية المستدامة حيث لاتزال أفريقيا السمراء، كما يسمونها أحياناً، تعاني من مخلفات الحقب الاستعمارية التي هيمنت عليها منذ القرن 19 وحتى ستينات القرن العشرين.
مع هذا كله فإن المؤلف يتعامل ع مع كل هذه الأدواء والسلبيات من منطلق نظرة أكثر تفاؤلاً تفيد بأن أفريقيا جنوبي الصحراء بدأت بتشخيص صحيح لأدوائها، وشرعت من ثم في اتخاذ أولى خطواتها على طريق الإصلاح وصولاً ـ كما هو المأمول- إلى مرافئ التنمية المستدامة
وإذ تتحول بوصلة الكتاب من الواقع الأفريقي إلى الواقع العالمي أو العولمي، يشدد المؤلف على أهمية أن تبادر الدول أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى اعتماد وتبنّي جدول أعمال التنمية المستدامة بوصفه دليلاً يمكن أن تستهدي به مسيرة العالم في مضمار التنمية الاقتصادية- الاجتماعية – العلمية- التكنولوجية ولصالح أجيال الحاضر وأجيال المستقبل في آن معاً.
عطب
لا يتردد المؤلف في مصارحة قارئيه بأن عولمة النمو الاقتصادي قد نجم عنها قدر هائل من الثراء الفاحش، فيما أفضت بالمقياس نفسه إلى قدر فادح من الفقر المدقع، فضلاً عن زيادات متصاعدة في حجم سكان المعمورة، فما بالنا وقد صَاحَب هذه الظواهر قدر يصفه المؤلف أيضاً من العَطَب الكارثي الذي أصاب العمليات الأساسية التي تدير حركة الكوكب الأرضي وهو ما يهدد الأسس الفيزيائية والركائز الطبيعية ـ المادية لوجود البشر .
المؤلف
جيفري ساكس اسم تعرفه جيداً الأوساط العلمية والدوائر الإعلامية على السواء. ويتردد هذا الاسم على صعيد المجامع الاقتصادية والسياسية، باعتبار أن المؤلف عمل مستشاراً مرموقاً لبان كي مون الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة، كما أن المقالات التي ظل يكتبها كانت تجد طريقها للنشر في أكثر من 100 بلد.
وقد أصدر المؤلف خمسة كتب أدرجتها صحيفة «النيويورك تايمز» ضمن قائمة أوسع الكتب انتشاراً.
تأليف: جيفري ساكس
عرض ومناقشة: محمد الخولي
الناشر: مطبعة جامعة كولومبيا، نيويورك، 2016
عدد الصفحات: 544 صفحة