قضايا ودراسات

محنة الهلال العربي الخصيب

د. ناصر زيدان
منذ القرن الثالث قبل الميلاد حكمت بلاد الهلال الخصيب ثلاث دول عربية؛ دولة الأنباط الجنوبية، وكانت تمتد على كامل مساحة الأردن وفلسطين وجنوب سوريا، ودولة الغساسنة في وسط بلاد الشام حتى العراق، ودولة تدمر، وشملت مناطق شمال لبنان وشمال سوريا وشمال العراق. ذابت هذه الدول وتراجع نفوذ القبائل العربية التي كانت تنتشر في تلك البلاد، وتغيرت معالم الهلال الخصيب لحقبة طويلة من الزمن، بعد أن تمكنت الإمبراطورية الرومانية من تفكيك الدولة النبطية، والدولة التدمرية، وتكفلت الإمبراطورية البيزنطية وإمبراطورية فارس القضاء على دولة الغساسنة وضم أراضيها إلى كل منهما في حدود العام 50 للميلاد.
كانت بلاد الهلال الخصيب مسرحاً للصراعات الدولية الكبيرة على مدى فترة طويلة من الزمن، وتصارعت القوى الدولية الكبرى على هذه الأرض قبل ظهور الإسلام وبعده. والفتح الإسلامي لتلك البلاد لم يكن سوى استعادتها إلى الحاضنة العربية من الاحتلالات الأجنبية التي استباحتها على مدى عشرات السنين. وبعد أن أعادت الحملات الصليبية القسم الكبير من المنطقة إلى حقبة الاحتلال، تمكن صلاح الدين الأيوبي من استعادتها إلى كنف العروبة والإسلام في انتصاره الحاسم على الصليبيين في العام 1189، وقد أظهرت اكتشافات عالم الآثار السويسري بوركهارت في العام 1812 أن مدينة بترا عاصمة الدولة النبطية؛ ذات أصول عربية آرامية خالصة، والإضافات على منشآتها لا تلغي الأصل.
محنة الهلال الخصيب – أو ما يحلو للبعض تسميتها بسوريا الكبرى – كبيرة ومتشعبة، ويكاد التاريخ يعيد نفسه من حيث إنتاج المآسي، ومن حيث المسببات، ذلك أن تدخلات القوى الخارجية الكبرى؛ تهدد الواقع العربي في سوريا والعراق، ويكاد تقاسم النفوذ على دول المنطقة الذي حصل منذ ألفي عام، وفي أكثر من محطة لاحقة إبان حقبة الاستعمار؛ هو ذاته يحصل اليوم، لكن الدول اليوم تختلف بمسمياتها الحديثة عما كانت عليه الإمبراطوريات في ماضي السنوات الغابرة.
إيران تسعى لبسط نفوذها على بلاد ما بين النهرين العربية، وتجهد لتأمين التواصل بين الحدود العراقية والحدود السورية، والتواصل بين طهران وبغداد ودمشق، وربما بيروت. والتوجهات التي تحكم التدخلات الإيرانية اليوم؛ لا تختلف كثيراً عن التوجهات التي كانت تحكم إمبراطورية فارس في الماضي، ودائماً العروبة الصافية لبلاد الهلال الخصيب ستكون ضحيةً لتلك التدخلات، مهما حاول البعض تجميل الأدوار، والتغني بالروابط الإسلامية، فهذه الروابط توضع عند بعضهم في خدمة مشاريع وأطماع إمبراطورية، أكثر مما تخدم الإسلام.
القوى الدولية الأخرى التي تتدخل في سوريا والعراق؛ لها أجندتها المختلفة، ولكن هذه الأجندة التي قد تزعج السياسة الإيرانية؛ ليست بالضرورة في مصلحة التوجهات العروبية لدى شعوب بلاد الشام، وهي تساهم في تعقيد الأوضاع أكثر مما تساهم في حل المعضلة.
الصراع في دير الزور والرقة السوريتين، أو في الموصل والأنبار العراقيتين؛ فيه ما هو معلن، وفيه ما هو مخفي. ومهمة محاربة «داعش» الإرهابية؛ مهمة مشروعة بالشكل، وتلقى تأييداً من الرأي العام العربي والدولي، ولكن يبدو من مجموعة من المؤشرات؛ أن الذين تغافلوا عن «داعش» أو ساعدوها في مراحل معينة كما فعلت دول غربية؛ قرروا إنهاء دورها، ولكن بعد «خراب البصرة»، كما يقال في المثل الشعبي. والمهمة النبيلة التي تستهدف «داعش» تخفي أطماعاً استراتيجية، أقل ما يقال فيها: إنها لن تكون في مصلحة تدعيم السيادة الوطنية لدول بلاد الهلال الخصيب العربية.
محنة شعوب الهلال الخصيب العربية تتفاقم، والمأساة الإنسانية لملايين من السوريين والعراقيين وغيرهم؛ تكاد تكون الأفظع على مر التاريخ. وتقاسم النفوذ الدولي والإقليمي للأراضي العراقية والسورية؛ واقع لا يمكن إنكاره، والانعكاسات الناتجة عن الفرز السكاني الذي يحصل في هذه البقعة أو تلك – وبتمويل قيل إن قطر تساهم فيه – تصيب البنيان العربي برمته. أما التفرقة المذهبية التي لم يتعرف إليها النسيج العربي منذ قبل، وبهذه الصلافة الوقحة؛ فتلك مصيبة ذات منشأ خارجي، وتوازي أعمال القتل المنظم للسكان أحياناً.
أما فلسطين – جنوب الهلال الخصيب – فتعيش المأساة، ومتروكة بين أنياب الوحش «الإسرائيلي» الذي يعذب سكانها والمعتقلين من أبنائها في كل يوم، ويبني المستوطنات فوق أراضي أهلها العرب الطيبين.
تذكرنا محنة الهلال العربي الخصيب اليوم، بمحنة هذا الهلال منذ ما يزيد على ألفي عام. أما حقبة الاستعمار البغيضة؛ فربما كانت أرحم من ويلات اليوم.
لا خيار أمام العرب إلا التضامن لمواجهة التدخلات الخارجية، والحفاظ على المصالح العربية المهددة.Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى