قضايا ودراسات

تعدد الخيارات فطرة لغوية

عبد اللطيف الزبيدي
هل ألقى علماء اللغة نظرة سياسية على العربية، قديماً أو حديثاً؟ هذا مبحث لا يخلو من الدعابة، لكن علينا ألّا نأخذ الدعابة على محمل الهزل. الطرح يفتح أفقاً لم يرتده اللغويون قط، وهذا لا يعني أن اللغات الأخرى تخلو تماماً من وجود هذه الظاهرة، لكن للعربية مكانة الصدارة في الميدان. سيقدم القلم نماذج متباينة، لكي تتجلى الصورة.
سنحصر الموضوع في أن بنيان اللغة العربية قام على حرية الخيار، على حرية التعبير. سبق الحديث في هذا العمود عن الاحتمال القوي لبناء العربية على الثنائي، المكون من حرفين، واكتمل الأمر بسيادة الثلاثي. هذه نظرة هندسية عجيبة. النقطتان تشكلان خطاً له كيان. كان لزاماً في «عقل اللغة» تطوير البناء إلى الثلاثي. بالمثلث، هندسياً، تستطيع تشكيل المربع والمستطيل والمخمس والمسدس والمثمن والهرم. لكن في ذلك أعجوبة رائعة: كأن «دماغ اللغة» فكر في قضية الترجيح البرلمانية باثنين مقابل واحد، وجعل ذلك سمة غالبة على نظام اللغة. نظام الأغلبية في الثلاثي يجعل الثنائي يحدد المعنى العام، بينما يحدد الثلاثي المعنى الخاص. خذ مثلاً: قسم، قصم، قضم، قطم، قلم، كلها تشترك في القطع، ولكن كل واحد متخصص في نوعٍ من القطع.
نأخذ مثالاً مختلفاً في حرية الاختيار، يسميه القدامى: أسماء الأضداد، وفي التراث نصوص كثيرة في هذا الباب. الشيء يدل على معنى وضده في آن، تخييراً للشخص في أن يأخذ هذا أو ذاك. أسماء الأضداد لا تُحصى. السليم هو السالم وهو اللديغ أيضاً.حرية الاختيار فيها عجائب لغوية، في الألوان بخاصة، وهي التي يجب أن تكون حاسمة في التحديد. الأخضر يعني الأسود، من ذلك أرض السواد (العراق)، لأن كثافة الواحات الممتدة إلى الأفق، تلوح خضرتها سوداء. الأسود والأبيض كلاهما يحق لك استخدامه في معنى الآخر.
في العربية (وفي اللغات الأخرى أيضاً) المشتركات في اللفظ، المفترقات في المعنى. ما سر هذا التخيير الغريب؟ العين لها قرابة خمسين معنى في العربية، وهو رقم خيالي في كلمة واحدة تحمل في ذاتها حشداً من المعاني المختلفة. تخيل حيواناً واحداً تلد أنثاه عشرات الحيوانات اللاحمة والعاشبة، ما يطير وما يزحف وما يسبح. وماذا عن حرية الخيار والانتقاء في المرادفات، التي أشكالها مختلفة ومضامينها واحدة؟ الصيغ التعبيرية هي الأخرى لها حريتها، تقول الشيء وأنت تعني عكسه وضده. أبدع صورة: «وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم» (النحل 15)، بمعنى حتى لا تميد بكم.
لزوم ما يلزم: النتيجة اللغوية، القراءة تحتاج إلى ترجمة من اللغة إلى اللغة نفسها.

abuzzabaed@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى