النكوص اليائس لبعض المثقفين العرب
د. علي محمد فخرو
أحجية نكوص المثقفين العرب عن مبادئ شتى الإيديولوجيات التي آمنوا بها سابقاً، والتي ناضلوا من أجل تحقيقها طوال فترة عنفوان شبابهم ما عادت أحجية نادرة، وإنما أصبحت مرضاً ينتشر في كل بقاع الوطن العربي.
بعض المثقفين يتحسرون على أيام الاستعمار، ويتكلمون عن حسناته التمدينية وعن مظاهر الاستقرار والسلم والتقدم التي رافقت تواجده في أرض العرب، بل ويتمنون رجوعه. بل ويأسفون على الجهد الذي بذلوه والتضحيات التي كابدوها لتحرير هذا الجزء أو ذاك من عبودية الاستعمار وجرائمه|.
بعضهم الآخر يعلنون طلاقهم للموضوع الفلسطيني برمته، ويعلنون توبتهم من خطيئة محاربة الوجود الصهيوني الاستيطاني في فلسطين العربية. وينضم هؤلاء إلى مخازي فوائد التطبيع مع العدو الصهيوني التي تمارسها بعض الأنظمة العربية. وينسون أيام كفاحهم لنصرة إخوان لهم في فلسطين المحتلة واستعدادهم للتطوع في صفوف المقاومين والمجاهدين.
بعضهم الآخر يكتب قصائد المدح في الطائفة التي ينتمي إليها وقصائد الذم والقدح في طوائف الآخرين، أو يتغنى بأفضال انتماءاته القبلية والعشائرية والعائلية، في الوقت الذي يهزأ بقيم الانتماءات الوطنية الديمقراطية وبرابطة العروبة وبكل رابطة دينية ثقافية جامعة. وينسى أنه كان من أشد المضادين للانتماءات الفرعية المقسمة للمجتمعات والمسممة لأجواء المواطنة والحقوق الإنسانية.
ما الذي يجعل أولئك المثقفين يرتدون بذلك الشكل المفجع؟ إنه كما يقولون، اليأس من كل أنواع النضال السياسي العربي. إنه الاعتقاد، كما يدعون، بأن الإنسان العربي عصي على كل إصلاح، وأنه من دون سائر البشر، كائن ضعيف وبليد ومتخلف في مشاعره وعقليته وكل سلوكياته الاجتماعية.
لكن أليس ذلك النكوص، بشتى تجلياته، وتلك المواقف والتصريحات والتخريفات التي يكتبها هؤلاء أو ينطقون بها عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي تدل على أحد الأمور الثلاثة؟ تعب المناضل من الاستمرار في طريق النضال السياسي وتفضيل الجلوس على قارعة الطريق. أو، ثانياً، قراءة خاطئة للمشهد السياسي الذي تعيشه الأمة العربية حالياً، أو ممارسة الانتهازية الأخلاقية للحصول على فتات ما تقدمه هذه المائدة الرسمية أو تلك المائدة الاقتصادية العولمية.
ليس الهدف هو تجريح أحد أو المساس بنوايا أحد. فهذا موضوع متروك لمؤرخي المستقبل عندما ينجلي الغبار وتعرف الوجوه التي وراء الأقنعة. الهدف هو تذكير هؤلاء المثقفين، الأكاديميين والمجتمعيين الملتزمين الآخرين، بمسؤوليات المثقف تجاه مجتمعه وشعبه وأمته في أيام المحن والمآسي والانتكاسات، مثل أيامنا التي نعيشها نحن العرب، كل العرب.
أليست مهمته أن يحلل وينتقد بموضوعية، وأن يشير إلى سبل الخروج من الجحيم الحالي بأريحية، وأن يجيش مشاعر الصبر والكرامة والاستعداد لتقديم التضحيات في صفوف جماهير الأمة وعلى الأخص شبابها لمنازلة أعداء الإنسان العربي والوطن العربي الزاحفين والمتآمرين من الخارج والمتسلطين الجشعين الأنانيين من الداخل؟
وإذا كان لا يستطيع أن يخرج نفسه من مشاعر القنوط واليأس والانهزام أليس من حق الأمة عليه أن يمارس فضيلة الصمت، وأن يترك الساحة للآخرين الملتزمين بقضايا أمتهم في الوحدة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتجديد الحضاري؟
دعنا نذكر هؤلاء المثقفين. الذين آمنوا بقدرة أمتهم على النهوض والتقدم والتمدن في السابق، والذين آمنوا أيضاً بعدالة قضاياها في التحرر من الاستعمار، وفي دحر الاستعمار البربري الصهيوني، وفي توحدها القومي لمواجهة أهوال عصرها وتكالب أعدائها، وفي تخلُصها من كل أنواع الحكم الاستبدادي الظالم المفقر، دعنا نذكرهم بأن انفجارات وحراكات جماهير الشعب العربي في شتى مدن العرب عبر القرن الماضي برمته وعلى الأخص خلال السنوات القليلة الربيعية الماضية دل على إمكانات تحررية حقوقية هائلة في الجسم المجتمعي المدني العربي.
لكن كل موبقات الجشع العولمي النيولبرالي، وكل فساد الاستبداد العربي التاريخي وبطشه، وقد تكالبت وتعاضدت دوماً ضد نضوج تلك الإمكانيات وضد نجاحها في الواقع العربي. هذا يجعل حالة الأمة العربية في الحاضر حالة فريدة في هذا العالم، عندما تواجه مساوئ العولمة مع غيرها من المجتمعات والأمم وتواجه مساوئ الاستبداد الذي عاشته عبر القرون.
أمة تواجه أهوالاً كهذه لا تحتاج لسماع أصوات وبكائيات مثل أولئك المثقفين. إنها تحتاج لمثقفين من نوع آخر.Original Article