لا تندم على ما حلمت
عبدالله السناوي
للأحلام الكبرى سطوتها على حركة التاريخ وصراعاته، حيث تستدعي بإلهامها بذل التضحيات من دون حد، أملاً في مستقبل مختلف.
من أسوأ ما يتعرض له أي بلد أن يفضي انكسار الرهانات الكبرى إلى التشكيك في شرعية حلم التغيير نفسه، وتوالد مشاعر ندم على اللحظة التاريخية التي صنعت ما انكسر. شيء من ذلك حدث في التجربة المصرية الحديثة. وشيء من ذلك يحدث الآن.
في واحدة من تجليات الشاعر الفلسطيني، محمود درويش، هتف: «لا تعتذر عمّا فعلت» متأملاً فلسفة الوجود في رحلة البحث عن معنى.
الاعتذار غير الندم. الأول، فعل إدراك لمواطن الخطأ وسعي لتصويب وتصحيح وردّ الأمور إلى نصابها الصحيح.
لم يكن قصد «درويش» نفي فكرة الاعتذار، فهي قيمة إنسانية بذاتها، بقدر تأكيد حق التجربة الإنسانية في استجلاء معنى وجودها، أياً كانت الأخطاء التي هي من طبيعة أية تجربة.
والثاني، فعل تأنيب قد يتحول إلى فعل يأس يمتد إلى خلط أوراق وقلب حقائق، ونفي أي سياق وتعلم أي درس.
عندما انكسرت أولى الثورات المصرية الحديثة واُحتلت مصر عام 1882، جرى التشهير المنهجي بزعيمها أحمد عرابي، وهجاه أمير الشعراء أحمد شوقي، عند عودته من المنفى بقصيدة يقول مطلعها:
«صغار في الذهاب والإياب
أهذا كل شأنك يا عرابي»
وبأثر التشهير، بصق شاب وطني على وجهه صارخاً: «يا خائن»، عندما رآه يخرج من أحد المساجد قرب نهايات حياته. قلبت الحقائق كاملة، وحاز الخونة الحقيقيون الأنواط والنياشين والألقاب، غير أنه في نهاية المطاف ردّ اعتبار الزعيم الوطني الكبير، الذي ثار من أجل أن تكون مصر للمصريين. انتصر حلم عرابي، وأكد شرعيته التاريخية.
وفي عام 1919 هبت ثورة شعبية جديدة بزعامة سعد زغلول، في عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى ونداءات حق تقرير المصير. بأي نظر جدي فإن حصاد الثورة لا يتسق مع حجم التضحيات التي بُذلت، فقد استشهد وجرح في غمارها آلاف المصريين. لم يُمكن «الوفد» حزب الأغلبية الشعبية من الحكم إلّا لسنوات قليلة، كما جرى التلاعب بدستور 1923 الإنجاز الرئيسي للثورة.
كان أثرها الحقيقي هو ما وفرته من ثقة في قدرة المصريين على طلب جلاء قوات الاحتلال البريطاني، وما وفرته من بيئة عامة أنتجت فكراً وأثارت وعياً بقيمتي الاستقلال والنهضة.
قوة المشروعات تتجلى فيما تلهمه من أحلام ورهانات.
هكذا كان الأمر في ثورة 23 يوليو/تموز بزعامة جمال عبدالناصر، مشروعاً للاستقلال الوطني والوحدة العربية والعدل الاجتماعي، تجاوز تأثيره وإلهامه مصر إلى عالمها العربي وقارتها الإفريقية والعالم الثالث كله، الذي أصبحت القاهرة عاصمته المركزية بلا منازع.
قوة «يوليو» في الأحلام الكبرى التي أطلقتها، غير أنها انكسرت عام 1967 من ثغرات النظام السياسي قبل أي شيء آخر. رغم الهزيمة فإنها صمدت وحاربت وأعادت بناء قواتها المسلحة بقوة الوطنية المصرية، وكان إرث «يوليو» من العوامل الرئيسية في هذا الصمود أملاً في استعادة الأحلام التي انكسرت وتصحيح الأخطاء التي ارتكبت.
لا أحد يقاتل مستميتاً إذا لم تكن لديه آماله في المستقبل وأحلامه في وطن جديد. وعندما ذهبت جوائز النصر في أكتوبر/تشرين الأول إلى غير مستحقيها من «القطط السمان» وأفضت الإدارة السياسية لنتائج الحرب إلى أوضاع استراتيجية تناقض ما حارب من أجله المصريون، فإن أحداً لم يندم على القتال، ولا كان ذلك ممكناً، فهذه جريمة تاريخية مروعة. الشعوب لا تندم على ثوراتها ومعاركها وأحلامها وتضحياتها وإلّا فإنه اليأس من أي تغيير.
هذا ما نحتاجه الآن في النظر إلى 30 يونيو/حزيران، التي تعرضت أحداثها الكبرى إلى ما يشبه التشويه من أطراف متناقضة.
هناك من حوّل أحداثها إلى شرائط دعائية.. وهناك، بالمقابل، من أفرط في تشويهها بدواعي الانتقام. كادت الحقائق تغيب، وأولها أن الثورة المصرية اختطفت مرتين، الأولى، من جماعة «الإخوان المسلمين».. والثانية، من الماضي نفسه الذي ثار عليه شعبه.
لا الدعاية تقدر على رواية التاريخ بإقناع.. ولا الانتقام يصلح لأية رواية. رغم ذلك فإن تجربة الثورة يستحيل حذف أثرها التاريخي، ولا نفي شرعيتها ولا إزاحة طلبها في التحول إلى مجتمع ديمقراطي حر وعادل.
لم تكن «يناير» مؤامرة بقدر ما كانت صراعاً مفتوحاً على المستقبل توافرت أسبابه في انسداد القنوات السياسية والاجتماعية، وتهميش دور مصر في عالمها العربي، فضلاً عن «مشروع التوريث» وزواج السلطة بالثروة، وتفشي الفساد وارتفاع منسوب الدولة الأمنية.
لا يعني اختطاف «يناير» نفي شرعيتها التاريخية، وإلّا فإنه تدليس على التاريخ.
بذات القدر لا يمكن النظر إلى ما جرى في 30 يونيو/حزيران من تظاهرات لا مثيل لأحجامها في التاريخ الحديث، خارج سياق الصراع على المستقبل وطبيعة الدولة.
لم تكن «يونيو» انقلاباً بقدر ما كانت طلباً جماهيرياً لدرء مخاوف الانجراف إلى احتراب أهلي، وهيمنة جماعة واحدة على كل مفاصل الدولة لبناء دولة دينية.
الشعوب الحية تراجع تجاربها، وتعيد قراءة تاريخها حتى تعرف أين كانت الأخطاء القاتلة التي تفسر الانكسارات، غير أن أسوأ مراجعة ممكنة، نزع شرف الثورة عن المجتمع المصري.
لم يكن ممكناً أن تحدث «يونيو» ما لم تكن «يناير» قد وقعت.
وفق النص الدستوري فإنهما ثورة واحدة. فصل «يونيو» عن جذرها الأم هو بذاته مؤامرة على الثورة، إذا صح حديث المؤامرات.
على نفس المنوال فإن الندم على «يونيو» هو خيانة ل «يناير»، إذا صح حديث الخيانات.
أرجو أن نتذكر أن طلب الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة جوهر «30 يونيو». الشرعية التاريخية هنا بالضبط، ولا توجد شرعية أخرى.
للانكسار أسباب جوهرية، وذلك يستدعي المراجعة الشاملة داخل سياق الحوادث لا خارجها.
نفي طبيعة الصراع في «يونيو» مشروع تكرار لأخطاء الماضي بصورة أكثر كارثية.
المشكلة أن اليائسين لا يصنعون مستقبلاً، فلا تندم على ما حلمت في طلب الدولة الديمقراطية المدنية الحديثة.