وقائع «داعشية»: مؤشر لقيام وطن حقيقي
حياة الحويك عطية
أربع وقائع يفرضها نجاح القوات العراقية في تخليص الموصل من تنظيم «داعش»:
الأولى، أن هذا الانتصار العسكري ليس نهاية التنظيم كوجود إرهابي مقاتل. الثاني، أن هذه النهاية لم تأت إلا على انقاض مدينة مدمرة بالكامل، عمرانياً وبشرياً واقتصادياً. الثالث، أن «داعش» ليس التنظيم الإرهابي الوحيد الفاعل على الأراضي السورية العراقية، وليس غيره أقل خطراً منه، خاصة جبهة النصرة. الرابع، وربما الأهم، أن التنظيم، والإرهاب الأصولي كله، ليس مجرد فرقة عسكرية تحاول تنظيم التوحش، بل هو توحش فكري روحي مرتبط بالمقدسّ يحفر عميقاً في كيان الآلاف من البشر ولا تؤدي الهزيمة العسكرية إلا إلى المزيد من تجذره وحقده.
من هنا، ربما يجد المرء نفسه، وللمرة الأولى متفقاً مع التوصيف الأمريكي الذي جاء على لسان الرئيس، ووزير الخارجية، حيث وصفا الإنجاز ب: «خطوة»، و«مؤشر». لكن لتبرز مباشرة جملة أسئلة: هل كان من الممكن أن نرى «داعش» في الموصل لولا الاحتلال الأمريكي للعراق، وحصاره لسنوات قبل ذلك؟ هل كان إنشاء «داعش» وتشكله بعيداً عن السجون الأمريكية في العراق، وعن دعم الذين يساندون مخططات كل من يقف وراء الاحتلال؟ لماذا تركت الموصل ل«داعش»، سلمت إليه عروساً عامرة، واليوم تستعاد منه ركاماً بشرياً وعمرانياً، من دون أن يحاسب من سلمها؟ من الذي سيعيد إعمار الموصل؟ هل هي الشركات المتعددة الجنسيات، أم الدول المندرجة فيها، هؤلاء الذين يمولون الدمار ليعودوا فيمولوا إعادة الأعمار، والمال يأتي من ثروات البلدان المعنية… ننهبكم لندمركم وننهبكم لنبنيكم، والأخطر أننا نبني وفق رؤية جديدة تكرس هيمنة أرباب السوق، وتكرس ما يخدم هذه الهيمنة من كسر الناس، وتشظيهم إلى هويات فرعية تعمق الأحقاد، وتباعدها، إن لم نقل العداء بينها، يخاف أحدها الآخر، ويلجأ كل منها إلى حماية أجنبية مختلفة تقضي كلياً على مفهوم السيادة والمصلحة الوطنيتين، وعلى مفهوم المواطن الذي يتحول إلى عامل مستعبد، ومستهلك مفرغ.
كل ذلك يعمق القهر، يعمق الكبت، يعمق الجهل والتطرف، يعمق الإرهاب كحالة فكرية روحية نفسية. أما الدين فيكون الطريق الأفضل لتغذية كل ذلك، إذ يوظف كوسيلة لتعطيل العقل، وتبرير الإجرام، وفرض الطاعة. وعندما يكون الإنسان يائساً من كل ما هو واقع وملموس، فإن لجوءه إلى الغيب والما وراء، والمطلق، يصبح المهرب الوحيد لاكتساب مسرب ما، لدى من يوظفونه بوعي، أو من يوظفهم من دون وعي، على حد سواء.
من هنا، لا بد من وعي حقيقة أن محاربة هذه الحالة لا يكون ألا بمضاداتها. لا نقول بإلغاء الدين من وعي الناس، وهذا مستحيل، خاصة في منطقة تتميز بإيمانها، ولم يكن الدين إلا ليشكل دائماً جزءاً أساسياً من تاريخها وثقافتها. بل بقراءة مستنيرة إنسانية للدين، وبإرساء مفاهيم ثقافية اجتماعية تعزز هذا البعد الإنساني.
لكن ما هو أعمق من هذا، هو الخروج من التعامي، والنظر بواقعية إلى الأسباب العميقة التي دفعت الناس نحو هذه الظلامية. بدءاً من شعورهم بالظلم المتعدد الأوجه:
– غياب الدولة المدنية التي تساوي بين مواطنيها من دون تمييز بين عرق ودين ومذهب.
– غياب الثقافة الوطنية التي تفهم هذا الطرف أنه ليس الأحق بالسلطة، وتقول للطرف الآخر إن خراب البلاد ليس فرصته لعلاج مظلوميته التي حملها قروناً، ولا يخلصه منها إلا مفهوم المواطن، وتقول للطرف الثالث المغاير في الدين انه ابن البلاد الأصلي من العراق إلى الشام إلى مصر، وإن عليه ألا يجعل الحقيبة رداً على العنف. وتقول لهم جميعاً إن الالتجاء إلى تركيا، أو إلى إيران، أو إلى الغرب، سيؤدي إلى تعزيز نفوذ ومصالح هذه الدول، لا إلى تعزيز مصالحه. ولذلك تدعم الكثير منها ظواهر مثل «داعش»، ثم تدعم القضاء عليها لتعميق الشروخ والدمار والتخلف، ومنع نشوء دول حديثة، حقيقية.
– غياب العدالة الاجتماعية الذي يجد جذوره في النظام الاقتصادي من جهة، وفي استشراء الفساد الإداري والسياسي والمالي.
– غياب الإحساس بالكرامة: الكرامة الوطنية من جهة، والكرامة الفردية من جهة ثانية. ولننظر إلى التاريخ، وسيكولوجية الشعوب، فلطالما تبلورت الوحدة الاجتماعية في أوقات الانتصارات، وتمظهر التفسخ في أوقات الهزائم. ولطالما قاتل المواطن المرتفع الإحساس بكرامته اكثر وأقوى من المواطن المستلب، الذي إن قاتل، فليهدم لا ليبني، ولحساب من يشغله لا لحساب بلاده وأهلها.
خريطة طريق طويلة، تمتد لعقود طويلة، لكن لا خلاص لنا في كل بلاد العرب أوطاني إلا بها. خاصة في هذا المشرق العربي التعددي.
hayathanna@hotmail.com