كتابٌ واحد لا غير
د. حسن مدن
ختمتُ إحدى فقرات كتابي: «الكتابة بحبر أسود» بالتساؤل التالي: «كم من المرات يُساء فهم الكاتب، فيؤوّل ما قصده على النقيض تماماً من محتواه؟».
وجدتُ إجابة، أو ما يشبه الإجابة على هذا التساؤل في تعليق تيموني ليري على كتاب هيرمان هيسه: «الرحلة إلى الشرق»، الذي حسم الأمر بالطريقة الآتية: الكتابة شيء والقراءة شيء آخر، ولهذا السبب فإن كل الكتابات يُساء فهمها، وكذلك يساء فهم الكُتّاب كلهم.
هذا السبب يحمل الكثير من الحكماء على أن يتحاشوا الكتابة، خشية أن يساء فهمهم. وهذا بدوره يطرح السؤال: من هم الحكماء، أو متى بوسعنا أن نصف الرجل، أو المرأة بالطبع، بالحكمة؟
برأي ليري، فإن الحكيم هو «الذي تجاوز الستارة اللفظية، فرأى مسيرة الحياة وعرفها وأحسَّ بها، ونحن ندين له بالامتنان حين يبقى معنا ويحاول أن يدفعنا لمشاركته فرحته».
الكُتّاب العظام هم من طراز هؤلاء الحكماء، الذين يجدون أنفسهم محمولين، استجابة لنداء خفي في نفوسهم، على تحويل الرسالة إلى كلمات، لا أن تبقى حبيسة نفوسهم. الرسالة موجودة خارج الكاتب، هي في الحياة من حولنا، حتى لو لم يُعبّـر عنها برموز أو كلمات. لكن ليس الكل قادرين على أن يجدوا المفتاح إليها، وفي هذا تكمن مهمة الكاتب، الكاتب العظيم تحديداً.
لماذا الكاتب العظيم تحديداً؟
بعض الإجابة يأتي في قول ليري: «يكتب الحكماء بتروٍ، بسرّية. إنها طريقة صنع زهرة. عظمة كتاب عظيم تكمن في المعنى السري الجذري المتخفي وراء شبكة الرموز».
كان ميلان كونديرا قال مرةً ما يُفهم منه أن لدى الكاتب فكرة واحدة فقط يكرّس لها كل كتاباته. ويحملنا هذا على الاعتقاد بأن هذه الفكرة المحورية قد تأتي في أبهى وأعمق تجلياتها في واحد من كتبه، فيما بقية الكتب هي تنويعات على هذه الفكرة ذاتها. وعلينا أن نستدرك بالقول: هذا لا يعني أن بقية الكتب ليست شائقة وعميقة، فهي تطوف بنا حول الفكرة ذاتها من زوايا أخرى لم نلحظها في كتابه ذاك.
«مئة عام من العزلة» هي الرواية الأهم لغابرييل ماركيز، لكن لا يعني هذا أن رواياته الأخرى غير مهمة وفارقة. ولكن بشيء من التمحيص نجد بذرة موضوعاتها واحدة، أينعت وأزهرت في تجليات مختلفة. لكن صاحبنا تيموني ليري، يذهب بهذه الفكرة إلى الأقاصي، إلى ما قد لا يخطر على البال، حين يقول: «الكُتّاب العظام يكتبون الكتاب ذاته مغيرين فقط زخارفهم الخارجية، كالزمن والشعب».
هيرمان هيسه، برأيه، واحد من هؤلاء الكتّاب العظام «إنه مثل الطبيعة في نيسان يكسو شيفرته السرّية بريش خيالي».
madanbahrain@gmail.com