السلطة والحنكة السياسيّة في العصر الرقمي
تأليف: توم فليتشر
عرض وترجمة: نضال إبراهيم
من سيكون في السلطة في القرن الواحد والعشرين؟ الحكومات؟ أصحاب الأعمال الكبيرة؟ عمالقة الإنترنت؟ وكيف يمكننا التأثير في المستقبل؟ يتطرق هذا العمل الذي وضعه توم فليتشر إلى مسألة مهمة، وهي «الدبلوماسية»، متناولاً تاريخها من القرون الوسطى إلى التاريخ الحديث، وصولاً إلى العصر الرقمي الذي فرض أساليب جديدة في اللعبة السياسية على المستوى الدولي، وتأثيرها في الشعوب، ثم يحدد سمات الدبلوماسي الجيد، ومتى يكون العمل الدبلوماسي صعباً ومتى يصبح سهلاً.
يقدم فليتشر في عمله «الدبلوماسيّة العارية: السلطة والحنكة السياسيّة في العصر الرقميّ»، الصادر عن دار «هاربر كولينز» للنشر والذي يقع في 320 صفحة من القطع المتوسط، أمثلة واقعية لكيفية استمرار الدبلوماسية في إيجاد تأثير كبير في حياة الناس، والسبب في مواصلتها القيام بذلك، ويسأل القادة: من تمثل؟ وكيف يمكنك أن تقوم بعملك على نحو أفضل؟
ينقسم الكتاب بعد التمهيد بعنوان «الدبلوماسي الذي وصل في وقت متأخر للغاية»، والمقدمة بعنوان «هنا ترقد الدبلوماسية»، إلى ثلاثة أجزاء: الأول، تاريخ قصير عن الدبلوماسية ويأتي في ستة فصول هي: 1- الدبلوماسية الأولى: من رجال الكهوف إلى القناصل. 2- دبلوماسية عن طريق البحر: من كولومبوس إلى كوبيبويز. 3- أفضل قرن للدبلوماسية. 4- من البريد الإلكتروني إلى المبعوثين. 5- ما الذي يصنع دبلوماسياً جيداً؟
أما الجزء الثاني فهو بعنوان «الحنكة السياسية وحرفة الشارع: القوة والدبلوماسية في عالم متصل». والجزء الأخير: ماذا بعد؟
يستكشف توم فليتشر، السفير البريطاني السابق في لبنان، والذي يعدّ أصغر سفير عين لبريطانيا على مدى 200 عام – المبادئ الأساسية للسياسة الخارجية المتقدمة في القرن الواحد والعشرين: كيفية تحقيق التوازن بين التدخل والمصلحة الوطنية، واستخدام الحوكمة العالمية من أجل تحقيق الأهداف الوطنية، ووضع برنامج للأنظمة الدولية التمثيلية. ويطرح سؤالاً: هل سيحتاج العالم في السنوات ال 100 المقبلة، إلى التعامل مجدداً مع نفس الكمية من التنمية الاجتماعية في القرون الماضية، من إعادة الولادة للدولة المدينة، والصراع للحصول على الطاقة الجديدة، واختفاء الحدود، إلى رغبة العالم في الانتقال إلى الدول المتقدمة؟
ويستند في ذلك إلى تناول تجربة عدد من القادة الأكثر نفوذاً في عالم السياسة والدبلوماسية، ومن بين من يتطرق إلى تجاربهم: الدبلوماسي الفرنسي شارل موريس تاليران (1754 -1838)، والسياسي الأمريكي هنري كيسنجر، والراحل نيلسون مانديلا، والسياسيان الأمريكيان جون وروبرت كينيدي، حيث يحلل صعود القوة الذكية، والقوة الناعمة، والتدخل الجديد.
تجربة شخصية
يتحدث عن تجربته الشخصية في الدبلوماسية قائلاً: «خلال فترتي كسكرتير خاص، رأيت أن التكنولوجيا تغيّر الحنكة السياسية. تعاملت مع الورقة والقلم مع رئيس الوزراء الأسبق توني بلير، وأرسلت البريد الإلكتروني الأول مع رئيس الوزراء غوردون براون، وبدأت باستخدام المراسلات على جهاز الآيباد مع رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون». كما يشير إلى أنه في البداية شعرنا بارتباك في التعامل مع الشريط الإخباري على شاشة «سكاي نيوز» التي تتسع ل 140 حرفاً، ثم انتقلنا إلى التغريدات على موقع «تويتر»، والتي أيضاً لا تتسع إلا ل 140 حرفاً، فكان لا بد من الإيجاز وانتقاء الكلمات بعناية، والتأكد من تأثير الكلمات.
ويقول عن ذلك أيضاً: «هذا التغيّر يمثّل تغيرات بنائية أوسع في الاتصالات، وبالتالي المجتمع على العموم. ولدى جيل الإنترنت فرصة أكبر من أي جيل سبقه في مسألة فهم عالمهم، من ناحية الانغماس فيه وتشكيله»، مضيفاً أنه «في السنوات التي تلت الأحداث الإرهابية في نيويورك 11 سبتمبر/أيلول 2001، شهد العالم تحولاً على نحو أكثر من قبل المهووسين الأمريكيين بالحواسيب في مساكن الطلبة أكثر من نشطاء القاعدة في الكهوف. والعالم سوف يتذكر مارك زوكربيرغ لفترة أطول من أسامة بن لادن».
ويشير إلى أن المواطنين من تونس إلى كييف استخدموا هذه الوسائل في تحركاتهم السياسية والاجتماعية وجعلوا من وسائل التواصل الاجتماعي أداة استثنائية. ويقول: «في السنوات القادمة، ربما يقول الناس إن أكثر الأسلحة قوة لم تكن غاز السارين أو القنبلة النووية، بل الهواتف الذكية».
تاريخ الدبلوماسية
كما يقدم موجزاً عن تاريخ الدبلوماسية، بدءاً من شين ويغين، مستشار أحد الأباطرة الصينيين في القرن الثالث، إذ بعد أن خيّب أمل سيده في مساعيه السياسية، انتهى مصيره إلى قطع لحم صغيرة. ويقول الكاتب: «لحسن الحظ، هذا المصير لا ينتظر الدبلوماسيين اليوم، مهما كانت أوجه القصور لديهم».
كما يتوقف عند السفراء الإسبان والفرنسيين في لندن، الذين سعوا إلى التقليل من شأن بعضهما البعض، ويشير إلى أن النقطة البارزة في الدبلوماسية الأوروبية عموماً تعتبر انطلاقاً من مؤتمر فيينا في عام 1815، والتي أرست الأساس لقرن من السلام في أوروبا، ما أتاح نمو الإمبراطورية. كما أدى مؤتمر فيينا إلى ولادة السلك الدبلوماسي على نحو مهني.
ويذكر أنه عندما وصلت الملكة فيكتوريا (1819 – 1902) إلى العرش، كان لبريطانيا ثلاثة سفراء دائمين فقط؛ وعندما توفيت، كان هناك 100 سفير في أرجاء العالم، وانتهى كل هذا الأمر في ألم وبكاء على الصعيد العالمي، مع اندلاع الحرب العالمية الأولى التي أدت إلى معاهدة فرساي، والتي بدورها زرعت بذور الحرب العالمية الثانية.
وعن مسألة الثقة بين السياسيين والعامة، اشتكى دبلوماسي فرنسي في 1931 من نشاطات الصحافة التي لا توفّر جواً ملائماً لتنفيذ المخططات السياسية، حيث تخبر الناس بالحقيقة، وهذا ما يصعب مهمتهم، وهذا الأمر يسير بالطبع عكس قيم الحكومات الديمقراطية والمنفتحة على شعوبها، إلا أنه رغم ذلك فالعديد من شعوب العالم المتقدم تجد أن السياسيين يمارسون تضليلاً وخداعاً معهم.
وفليتشر حين يتحدث عن انحدار الثقة في الطبقة السياسية، لا يجدها أزمة، أو على الأقل لم تصبح أزمة حقيقية بعد، خاصة أنه حينما يحدد السمات الأساسية لكل دبلوماسي جيد والتي نلخصها في: البراعة، الشجاعة، الفضول، وامتلاكه القدرة على التواصل مع الجميع. من دون أن يحدد الصدق والنزاهة على القائمة كما علق أحد النقاد عليه لاحقاً.
الدور المتغير للدبلوماسي
ويتناول فليتشر في الجزء الثاني من عمله الدور المتغير للدبلوماسي في عالم شهد تحولاً سريعاً عن طريق صعود السوق العالمية وولادة الإنترنت. ويبين كيفية تعاطي وزارة الخارجية البريطانية مع الدبلوماسيين، ومسألة التطور الدبلوماسي، إذ إنه حتى وقت متأخر من عام 1970، كانت الوزارة تلجأ إلى «دليل الدبلوماسي»، الذي كان يقدم النصيحة للدبلوماسيين، وعن تصرف زوجاتهم، والمرأة الدبلوماسية كان ينبغي عليها أن تقدم استقالتها إذا تزوجت.
كما يوضح أن الدبلوماسيين البريطانيين كانوا يتسمون بالأناقة، ويحصّلون تعليمهم من مجموعة معروفة من الجامعات والمدارس، وأوساطهم كانت نخبوية بامتياز، كما أن مهارة السفير في كتابة برقية أنيقة كانت تزيد من رصيده في عمله. إلا أن ذلك كله تغير في العصر الرقمي الذي فرض تعاملاً جديداً مع الدبلوماسية والسياسية، إذا بات على الدبلوماسي الحديث أن يوسع من قاعدة جمهوره، وأدوات العصر الرقمي من مواقع التواصل الاجتماعي والبريد الإلكتروني وغيرها تساعده في القيام بذلك. ومن المتوقع أن يكون الدبلوماسي في الخط الأمامي عندما يتعلق الأمر بتعزيز المصالح التجارية والثقافية والسياسية لبلاده، بالتالي عليه إدراك أسلوب التخاطب مع جمهوره من الصغار والكبار، الأغنياء والفقراء، وجميع الأديان والمذاهب والطوائف.
يؤكد الكاتب أنه على السياسيين والدبلوماسيين التحلي بالمرونة والشجاعة في خوض غمار عالم جديد من العولمة والثورة الرقمية، حيث وتيرة التغييرات متسارعة، ولا شيء يبقى سرياً لفترة طويلة في عصر الشفافية و«ويكيليكس».
ويبين أن الجماعات الإرهابية نفسها لجأت إلى التكنولوجيا الرقمية للترويج لأفكارها، واستقطاب مجندين جدد لها، حيث اتخذتها سلاحاً موجهاً ضدنا. وبالتالي، سواء أحببنا ذلك أو لا، فإن البقاء في هذا العالم الرقمي بات أشبه بمهمة، علينا التحرك فيه بحكمة، وجعل أدواته قوة للخير في وجه الجماعات الظلامية التي تريد أن تفرض سواداً قاتماً على عالمنا.
أدوات الدبلوماسية الحديثة
يوضح الكاتب أن الدبلوماسية تصبح صعبة عندما تكون أمتك أو دولتك أو دينك في انحدار ملموس أو فعلي، إذ يصبح الذهاب إلى البيت الأبيض أكثر صعوبة، والتخطيط للاتصالات الهاتفية أيضاً. وكذلك تصبح صعبة عندما تكون قوتك العسكرية في هبوط أو أن التقشف سائد، أو أن المواطنين أقل رغبة في التضحية لأجل مصالح الدولة. وتصبح الدبلوماسية صعبة أيضاً عندما يفقد المواطنون حس الابتكار والإبداع بسبب العوز والفقر، والتضوّر جوعاً، فالدبلوماسية القوية لا تظهر في أجواء الفساد السياسي والجوع وانعدام القوانين.
ويشير الكاتب إلى أن الدبلوماسية تصبح سهلة عندما تكون القواعد والقوانين واضحة للمواطنين، وعندما يلعب جميع مواطني الدولة على طاولة الشطرنج ذاتها. وتصبح سهلة عندما تكون البلاد في حالة من الصعود، حينها تجد مكالماتك مردود عليها بالسرعة الممكنة، وتجد سهولة في التوسع على صعيد السفارات والوفود الاقتصادية.
وهنا يؤكد الكاتب أنه يترتب على الدبلوماسيين أن يتبنوا الذهنية التي تلائم أدوات العصر الرقمي الجديد الذي يشكل استثناء وثورة. ويقول: «العديد منا ارتكب أخطاء على مواقع التواصل الاجتماعي، لكن الخطأ الأكبر هو عدم التواجد عليها. وكذلك نحن بحاجة إلى السيطرة على هواتفنا الذكية».
وعموماًَ، يقدم الكتاب العديد من المناقشات والحجج والقصص السياسية، كما يظهر تعاطفه مع لبنان وشعبه، والجهد الهائل الذي بذله للتواصل مع هذا البلد الذي يشهد تعقيدات كبيرة على الساحة السياسية.
وفي الختام، يحدد ثلاثة تحديات كبيرة للدبلوماسي في القرن الواحد والعشرين وهي: متى وكيف ينبغي لنا أن نتدخل في حروب الآخرين؟ كيف نبني المؤسسات الدولية التي تصلح لتحقيق أهدافنا البشرية، أبرزها الأمم المتحدة، والتي غالباً ما تصبح عاجزة أمام التنافس بين مصالح الدول الكبرى؟ وكيف يمكننا الحد من عدم المساواة في العالم دون ترك دمار؟
يشكل هذا العمل نداء لنا كشعوب ودول لإعادة التفكير بمكاننا في المجتمع وفي عالمنا المترابط. كما يحثنا على التحلي بالشجاعة والإبداع والاتصال مع الآخرين في عالم يفتقد إلى الدبلوماسية في أجزاء كبيرة منه.
نبذة عن الكاتب:
توم فليتشر هو أستاذ زائر في العلاقات الدولية في جامعة نيويورك، ومستشار لتحالف الأعمال العالمي للتعليم ولأكاديمية الإمارات الدبلوماسية. شغل موقع السفير البريطاني في لبنان من 2011 إلى 2015، ومستشار السياسة الخارجية ل«داوننغ ستريت» لثلاثة رؤساء وزراء من 2007 إلى 2011.
كما يعد فليتشر زميلاً فخرياً في جامعة أكسفورد، يدوّن باسم «الدبلوماسي المجرّد»، ويترأس المجلس الاستشاري الدولي لاتحاد الصناعات الإبداعية، حيث يقوم بالترويج لهذا القطاع الأكثر ديناميكية وجاذبية لبريطانيا في الخارج. وقاد توم فليتشر مؤخراً استعراضاً للدبلوماسية البريطانية لأجل وزارة الخارجية في المملكة المتحدة، ويعمل حالياً على تقرير حول مستقبل الأمم المتحدة للأمين العام الجديد للأمم المتحدة. وهو متزوج من الدكتورة لويز فليتشر، طبيبة نفسانية، ولهما ابنان.