كُتّاب العالم في فخ ال «سي آي إيه»
تأليف: جويل ويتني عرض وترجمة: نضال إبراهيم
لم تقتصر أفعال وكالة الاستخبارات الأمريكية «سي آيه إي» على الجانب المخابراتي المعروف الذي تشتهر به، في الجانب السياسي أو العسكري، أو المعلوماتي، بل امتدت أذرعها إلى الجانب الثقافي بقوة من خلال أبرز الكتّاب في الولايات المتحدة والعالم، حيث استخدمتهم بشكل مباشر أو غير مباشر في خدمة الأهداف الأمريكية، ومناهضة الشيوعية خلال الحرب الباردة. يحاول هذا العمل أن يلقي الضوء على هؤلاء الكتّاب ودورهم في الترويج للثقافة الأمريكية، وتنفيذ الأجندة المخابراتية.
عندما تسربت أخبار عن أن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية «سي آي إيه» قد تواطأت مع المجلات الأدبية لإنتاج الدعاية الثقافية خلال الحرب الباردة، بدأت مناقشة لم يتم وضع حل لها حتى الآن. وبقيت القصة تنكشف مع تورط بعض أشهر الكتّاب الأدبيين في الولايات المتحدة الأمريكية منهم بيتر ماتيسين، جورج بليمبتون، وريتشارد رايت، حيث ظهرت أعمالهم التي قدموها لمصلحة الاستخبارات المركزية الأمريكية إلى النور.
يروي هذا الكتاب قصة وكالتي استخبارات مركزيتين، الأولى يمكن تسميتها وكالة الاستخبارات المركزية «الثقافية»، والثانية وكالة الاستخبارات المركزية بشكلها المعروف وأعمالها القذرة التي تقشعر لها الأبدان في كل أنحاء العالم، وكيف أنهما خلقتا حالة من التشويش في ذلك الخط الفاصل بين الدعاية والأدب. الأولى أسست المجلات الأدبية التي تروج للكتّاب الأمريكيين والأوروبيين والحرية الثقافية، في حين قامت الثانية بإطاحة بعض الحكومات، وذلك باللجوء إلى عمليات الاغتيال والرقابة وغيرها كأدوات سياسية. ويقول المدافعون عن وكالة الاستخبارات المركزية «الثقافية» إنه كان ينبغي الإشادة بعملها نظراً لتعزيز الاهتمام بالفنون وحرية الفكر، ولكن الكاتب يجد أن الوكالتين لهما نفس الأهداف المخفية، وتشاركتا في العديد من الأساليب مثل: الخداع، والتضليل، والترهيب.
يوضح هذا العمل كيف أن تقسيم وكالة الاستخبارات المركزية الجيدة مقابل السيئة هو تقسيم كاذب، وأن محاربي الحرب الباردة الثقافيون استخدموا مراراً وتكراراً في مناهضة الشيوعية كأداة للتجسس من دون رحمة على اليساريين، وفي الحقيقة على الكتّاب من جميع الميول السياسية، وبالتالي دفعوا الديمقراطية في الولايات المتحدة أقرب قليلاً إلى النموذج السوفييتي لدولة المراقبة.
يأتي الكتاب في ثلاثة عشر فصلاً بعد المقدمة وهي: 1) الخريجون. 2) مسؤولية المحررين. 3) بوريس باسترناك، السي آيه إيه، وجيانجياكومو فيلترينيلي. 4) باريس ريفيو تذهب إلى موسكو. 5) هل ال «سي آي إيه» تراقب مجلاتها؟ 6) احتجاج جيمس بالدوين. 7) في الهند. 8) الانقلاب الأمريكي في غواتيمالا. 9) كوبا: بورتريه من قبل فيغيريس، بليمبتون، هيمنغواي، غارسيا ماركيز، الجزء 2. 10) أدوات الاندفاع: بابلو نيرودا، موندو نويفو، كيث بوتسفورد. 11) المركز الحيوي لا يمكن أن ينتظر. 12) النكسة.
تمويل مشروط
يشير الكاتب إلى أن تصرفات وكالة الاستخبارات المركزية خلال الحرب الباردة لا يمكن إنكارها، إذ إنها أصبحت رمزاً للرعونة والطيش باسم مدّ نفوذ وتأثير الولايات المتحدة في المستوى الدولي، ويتطرق إلى عمل مجموعة «مؤتمر الحرية الثقافية» الذي أسسته الاستخبارات الأمريكية سراً في عام 1950 في برلين الغربية، لمواجهة الدعاية الشيوعية، وكانت تنشط في خمس وثلاثين دولة، وتقوم بتشغيل الكتّاب والمثقفين والفنانين، من خلال إقامة معارض وطباعة منشورات ونشر موادهم في المجلات التابعة لها، وتم كشف تمويلها من قبل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في 1967، وتم تغيير اسمها إلى الجمعية الدولية للحرية الثقافية حينها. يتناول الكاتب بشكل مفصل نص العلاقات بين مجموعة «مؤتمر الحرية الثقافية» والمجتمع الأدبي في فترة الحرب الباردة، متناولاً العديد من الأسماء التي ساهمت في تأسيس مجلات أدبية بارزة منها «باريس ريفيو».
أثناء تأسيس مجلة «غرنيكا» التي يرأس ويتني تحريرها حالياً، لفت نظره ما ورد في فيلم وثائقي تتحدث فيه إيمي هيومز عن والدها إتش إل هيومز أثناء تأسيسه مع كتّاب آخرين مجلة «باريس ريفيو»، حيث يناقش الفيلم دور وكالة الاستخبارات المركزية المفترض في تأسيس مجلة غير سياسية، ومن هنا توجه إلى النبش أكثر عن ارتباط وكالة الاستخبارات المركزية مع الكتّاب والصحفيين والفنانين، حيث اكتشف أن التمويل الذي أعطته للعديد من المنشورات والمناسبات الثقافية لعبت دوراً كبيراً على الصعيد الأدبي في آلة الدعاية الأمريكية الموجهة ضد الشيوعية.
يشير الكاتب إلى أن مجموعة «مؤتمر الحرية الثقافية» دفعت أجوراً عالية إلى مؤسسي مجلة «باريس ريفيو» وهم هيومز، بيتر ماتيسين وجورج بليمبتون، عبر طرق متعددة وعبر منظمات صديقة للمخابرات الأمريكية. ولعب هؤلاء دوراً في جذب كتّاب سوفيتيين ينشرون أعمالاً معادية للسوفييت، مثل «الدكتور زيفاجو» للكاتب الروسي بوريس باسترناك، وكذلك ساهموا في قمع أعمال أدبية عديدة باعتبارها شديدة الانتقاد لسياسة الولايات المتحدة، من بينها أعمال للكاتب دوايت ماكدونالد وإميلي هان.
يقف ويتني عند مسألة التمويل التي لعبت دوراً رئيسياً في ترتيبات النشر، تماماً كما هو الحال بالنسبة للمنشورات اليوم التي تفرض جهة التمويل شروطاً معينة وإن لم تكن مذكورة على الورق، ويقول «لدي الكثير من التعاطف مع الفنانين والمبدعين الذين يحاولون إيجاد طريقهم ويسعون إلى التمويل لأعمالهم»، وهو من جانبه يدعم التمويل الحكومي القوي للفنون عندما يتم رسم خطوط بين مصدر التمويل والجانب الإبداعي بوضوح واحترامها، دون أن تدخل السياسة والدعاية المضادة وتغير مسار هذه الخطوط.
مناهضة للشيوعية وللسود!
يتناول الكاتب في الفصل السادس مواقف الروائي والكاتب الأمريكي جيمس بالدوين (1924 -1987) والكاتب ريتشارد رايت. كان بالدوين ناشطاً حقوقياً يدافع عن حقوق السود ويدعو إلى العدالة الاجتماعية ويكتب ضد التمييز العنصري في الولايات المتحدة والعالم. ويشير ويتني إلى أنه في فترة رئاسة كيندي بدأت الإدارة الأمريكية الاهتمام بمسألة العرق. ويتوقف عند تأسيس ال«سي آي إيه» مجموعة ثقافية للأمريكيين الأفارقة، وهي بمثابة مجموعة «مؤتمر الحرية الثقافية» لكن باللون الأسود ضد الشيوعية.
يقول الكاتب إن ريتشارد رايت – وكذلك بالدوين – أدركا أن الاستخبارات الأمريكية كانت تتجسس عليهما، حيث قامت باختراق المجموعات التي كانا جزءاً منها، وصحيح أن رايت كان في هذه المجموعة، إلا أنه نفسه قال عنها إنه: «تذبذب السي آي إيه بين الدعم السري والتجسس»، وكان هذا الأمر كافياً لأن يتخذ رايت موقفاً قال فيه: «موقفي نحو الشيوعية لم يتغير، لكن موقفي من أولئك الذين يناهضونها قد تغير. رفعت يدي لأناهض الشيوعية، ولكن لأجد أن يد العالم الغربي توجّه سكيناً إلى ظهري. على العالم الغربي أن يحدد رأياً له إذ ما كان يكره الناس الملونين أكثر مما يكره الشيوعيين.. أو الشيوعيين أكثر من الملونين». وحينها بدأ بالدوين أيضاً في دحض فكرة أن الشعب الأمريكي هم أكثر الشعوب جاذبية، بعدما رأى أن ال«سي آي إي» تدفع الكتّاب السود إلى مناهضة الشيوعية وتمنعهم من نيل حقوقهم المشروعة.
ويتناول جوي لويتني في الفصل السابع محاولات ال«سي آيه إيه» اختراق الهند من الناحية الثقافية، إذ لجأت إلى مجموعة «مؤتمر الحرية الثقافية»، إلا أن الأمر لم يكن سهلاً، فلجأت إلى مجلة «إينكاونتر» التي كانت تصدرها في بريطانيا، وقدمت تقارير عن الهند.
وفي سياق مساعيها، أطلقت مجموعة «مؤتمر الحرية الثقافية»مجلة«كويست»في أغسطس من عام 1955، عندما وصفها السفير الأمريكي في الهند جون كينيث غالبريث بأنها تبعث على التفاؤل، إلا أن الشيوعيين في الهند وجدوها من ضمن الدعاية الأمريكية. ويشير الكاتب إلى أنه على الرغم من الجهود الأمريكية في محاولة التوسع في إصدار المجلات الأدبية في الهند، لكن في عام 1951 رفضت السلطات الهندية أن تطلق مجموعة «مؤتمر الحرية الثقافية»مطبوعتها الثانية، في إدراك منها أنها «جبهة أمريكية» ناعمة.
الانقلاب الأمريكي في جواتيمالا
في الفصل الثامن من الكتاب يتوقف ويتني عند«الانقلاب الأمريكي في غواتيمالا»الذي يقول عنه إنه كان فشلاً كبيراً في كل جانب من جوانبه، ويبرر كلامه بالتالي أولاً، الولايات المتحدة استبدلت رئيساً منتخباً بشكل ديمقراطي وهو جاكوبو أربينز غوزمان بدكتاتور يدعى كارلوس كاستيلو آرماس تسلم السلطة في جواتيمالا من 1954 إلى 1957 حين تم اغتياله. ويقول إن أرماس أسس نظاماً من القمع خلال فترته، مهد بذلك لسلسة من الحكام المستبدين الذين تناوبوا على قمع كافة الحريات في غواتيمالا».
وكانت ذروة دعم ال «سي آي إيه» للرؤساء العسكريين في غواتيمالا في فترة حكم إفراين ريوس مونت الذي بقي في السلطة 1982- 1983، حيث وسع نطاق القمع كثيراً في الحرب الأهلية بجواتيمالا، الذي قتل خلالها ما يقارب 200 ألف مدني.
ثانياً، هذا الدعم أو الغزو الأمريكي لغواتيمالا صنع أفراداً مؤثرين راديكاليين من الحركات المعادية للإمبريالية في أمريكا الجنوبية. وثالثاً، كان التأثير في الثقافة الأدبية في جواتيمالا، وفي كل أنحاء أمريكا الجنوبية، كبيراً. إذ إنه بعد أن أطاحت ال«سي آي إيه» جاكوبو أربينز غوزمان، قام كارلوس كاستيلو آرماس بمنع الأميين من التصويت، فارضاً عليهم حالة من التهميش، كما منعت السلطات الثقافية العديد من الكتب التي كانت تحمل معاداة لسياسات الولايات المتحدة والنظام القائم المدعوم من ال«سي آي إيه»، حتى إنها أحرقت أشهر الكتب الأدبية مثل رواية «البؤساء» لفيكتور هوغو وأعمال دوستوفسكي، بالإضافة إلى حرق كتب بقلم الفيلسوف وأول رئيس منتخب ديمقراطياً في غواتيمالا عام 1944 وهو خوان خوسيه أريفالو.
يدحض ويتني ادعاءات البعض الذي يقول إن ال«سي آي إيه» ساهمت في انتعاش الأدب في أمريكا الجنوبية في القرن العشرين، إذ يجد أنها كانت مسؤولة عن القمع الحاصل، والتعذيب بحق المدنيين والنشطاء، وإعدام أعداد كبيرة من شباب كانوا مشاريع كتّاب كبار، حيث تمت تصفيتهم من قبل مرتزقة استأجرتهم ال«سي آي إيه». والنتيجة الكارثية الرابعة للانقلاب الأمريكي في غواتيمالا هي تفشي المشاعر المعادية للأمريكيين ولسياساتهم في المنطقة، ما جعل من أهداف سياساتها الخارجية صعبة التحقيق، ويقول إن أحد أهداف مجموعة «مؤتمر الحرية الثقافية» التي أطلقت مجلة «غوركين» حينها باللغة الإسبانية، تخفيف المشاعر المعادية للأمركة، إلا أن الأمر كان مستحيلاً، ليس فقط في غواتيمالا، بل في العديد من الدول، إذ إن الشعوب كانت شاهدة على أفعال الاستخبارات الأمريكية، إذ أنها عاثت في هذه البلدان فساداً.
«سي آي إيه» في أفغانستان
ويتحدث الكاتب في الفصل الأخير عن مراسلات الكاتب والمؤلف الأمريكي جون ترين رئيس التحرير الأول لمجلة «باريس ريفيو» الذي اقترح على ال«سي آي إيه» أن تقدم له تمويلاً لمنظمة غير ربحية، تعمل في مجال الإعلام في أفغانستان، لترويج الأفكار الداعية إلى الحرية والديمقراطية، ولكنه في الوقت ذاته ينسق جهوده مع «المجاهدين» في أفغانستان لمناهضة الشيوعية، مبيناً أن دعم ال«سي آي إيه» لا يهدف إلى تعزيز الديمقراطية والحرية في أي مكان، بل يكون مرتبطاً بأجندة،بعضها واضحة والأخرى غير واضحة.
المؤلف:
جويل ويتني أحد مؤسسي مجلة «غرنيكا» الفنية والسياسية ورئيس تحريرها. ظهرت كتاباته في صحيفة «نيويورك تايمز»، و«وول ستريت جورنال»، و«ذا نيو ريبابليك»، و«بوسطن ريفيو»، و«ذا سان فرانسيسكو كرونيكل»، و«ديسسينت»، وصالون، وغيرها من الصحف والمجلات. شارك مع المصور بريت فان أورت، في كتابة الكتاب الإلكتروني 2013«محادثات تيد بخصوص إزالة الألغام الأرضية» وهو شاعر أيضاً نشر قصائده في باريس ريفيو، ذا نيشن، وأجني. ينشر باستمرار، وينصب اهتمامه في مقالاته خاصة على مسألة الحرية الثقافية.