من يحكم العالم؟
تأليف: نعوم تشومسكي/عرض وترجمة: نضال إبراهيم
أصبح المشهد العالمي قاتماً في ظل الإمبريالية الأمريكية التي زرعت الشقاق والفوضى في بقع عديدة من العالم، وخلفت دولاً مدمرة وشعوباً منهكة بسبب حروبها، هذا لسان حال أكثر المنتقدين لسياساتها الخارجية، البروفيسور نعوم تشومسكي الذي يعاين عن كثب في كتابه هذا تغير القوة الأمريكية، والتهديدات على الديمقراطية في العالم، ومستقبل النظام العالمي، وذلك من خلال تقديم تحليل عن الوضع الدولي الراهن، في ظل صعود أوروبا وآسيا، ويقف عند الكثير من المحطات التاريخية من علاقة الولايات المتحدة بكوبا إلى تطوراتها الأخيرة مع الصين، فضلاً عن مذكرات التعذيب والعقوبات على إيران، ويبين تشومسكي أن الخطاب الأمريكي الداعي إلى العدالة وحقوق الإنسان انحرف عن مساره ليخدم مصالح المؤسسات المالية والشركات الكبرى.
الكتاب صادر عن دار «ميتروبوليتان بوكس» الأمريكية في 307 صفحات من القطع المتوسط، 2016.
يوضح تشومسكي أهم النقاط التي تشكل تحدياً للقوة الأمريكية، ويناقش كذلك تأثير الحرب الأمريكية لمحاربة الإرهاب على العالم الإسلامي، وكيف أن أفغانستان والعراق عانتا من الويلات والجرائم البشعة، ويستعرض ذلك من خلال التطرق إلى مشاريع النخب الأمريكية التي لا تكترث بعواقب الحروب على الشعوب.
يسعى تشومسكي في عمله هذا إلى استكشاف سؤال «من يحكم العالم؟» كيف تقدم هؤلاء في جهودهم؟ وأين وصلت بهم هذه الجهود؟ ويتألف عمله من 23 فصلاً بعد المقدمة وهي: «مسؤولية المثقفين»، «الإرهابيون أرادوا إنهاء العالم»، «مذكرات التعذيب وفقدان الذاكرة التاريخي»، «اليد الخفية للقوة»، «الانحدار الأمريكي: الأسباب والعواقب»، «هل انتهت أمريكا؟»، «الماجنا كارتا (الوثيقة العظمى) مصيرها ومصيرنا»، «الأسبوع الذي وقف فيه العالم صامتاً»، «اتفاقيات أوسلو: سياقاتها ونتائجها»، «عشية الدمار»، «««إسرائيل»» – فلسطين: الخيارات الحقيقية»، «لا شيء للآخرين.. الحرب الطبقية في الولايات المتحدة»، «لمن الأمن؟ كيف تحمي واشنطن نفسها وقطاع الشركات؟»، «غضب»، «كم عدد الدقائق إلى منتصف الليل؟»، «إيقاف النيران التي لم تتوقف انتهاكاتها أبداً»، «هل الولايات المتحدة دولة إرهابية بارزة؟»، «حركة أوباما التاريخية»، «طريقان»، «يوم في حياة قارئ لصحيفة نيويورك تايمز»، «التهديد الإيراني: من الخطر الأكبر للسلام العالمي؟»، «ساعة القيامة»، «أسياد البشرية».
ويشير في مقدمته إلى أنه منذ الحرب العالمية الثانية تقوم الولايات المتحدة بفرض تأثيرها في السياق العالمي، وتلعب دوراً في العديد من الصراعات والدول مثل: ««إسرائيل»»/ فلسطين، إيران، أمريكا اللاتينية، الحرب على الإرهاب، المنظمات الاقتصادية الدولية، حقوق الإنسان ومسائل العدالة، والكثير من القضايا المتعلقة ببقاء الحضارة الإنسانية على صعيد الحرب النووية والدمار البيئي، ويعلق: «قوتها على العموم، بدأت تتلاشى منذ أن وصلت إلى ذروتها التاريخية في عام 1945، ومع الانحدار الحتمي، فإن قوة واشنطن إلى حد ما أصبحت مشتركة مع الحكومة العالمية الفعلية ل «أسياد الكون» في «العصر الإمبريالي الجديد»، في إشارة إلى مجموعة السبع إلى جانب المؤسسات التي يتحكمون بها مثل صندوق النقد الدولي ومنظمات التجارة العالمية.
يؤكد تشومسكي أن «أسياد الكون» اليوم، ليسوا بالتأكيد الشعوب، حتى في الدول الديمقراطية ليسوا هم، فتأثيرهم محدود فيما يتعلق بالقرارات الخاصة بالسياسة والتخطيط، مشيراً إلى أن النخب الاقتصادية والمجموعات المنظمة وحدها تملك التأثير في القرارات الأمريكية، في حين أن المواطنين الأمريكيين لا يملكون إلا القليل من التأثير، وأحياناً لا يملكون بحسب باحثين بارزين يستشهد بهم تشومسكي.
أسياد البشرية؟!
خلال فصول الكتاب التي ذكرناها في الأعلى يحاول تشومسكي الإجابة عن سؤاله «من يحكم العالم؟» ويقول «عندما نسأل هذا السؤال، نتبنى في العادة الإجماع العام أن الأطراف الفاعلة في الشؤون العالمية هي الدول، وعلى رأسها القوى العظمى، ونفكر في قراراتها والعلاقات فيما بينها. هذا ليس أمراً خاطئاً. ولكن سنقوم بعمل جيد لو أخذنا في الاعتبار أن هذا المستوى من التعبير التجريدي يمكن أيضاً أن يكون مضللاً للغاية».
ويضيف: «الدول، بطبيعة الحال، لديها هياكل داخلية معقدة، والخيارات والقرارات الصادرة عن القيادة السياسية تتأثر بشكل كبير بالكتلة الداخلية المركزة في السلطة، في حين يتم تهميش السكان عموماً. هذا صحيح حتى بالنسبة لأكثر المجتمعات الديمقراطية. ولا يمكننا الحصول على فهم واقعي عمن يحكم العالم، بينما نتجاهل «أسياد البشرية»، كما سماهم الفيلسوف والاقتصادي الاسكتلندي آدم سميث في عصره، حيث قصد التجار والصناعيون من إنجلترا، أما في عصرنا، هؤلاء الأسياد هم التكتلات متعددة الجنسيات، والمؤسسات المالية الضخمة، إمبراطوريات التجزئة وما شابه ذلك».
ويشير إلى أنه بمتابعة سميث، أيضاً من الحكمة أن نأتي إلى «القول الدنيء» ل «أسياد البشرية» وهو: «كل شيء لنا، ولا شيء للآخرين» – وهو مبدأ معروف بطريقة أو بأخرى كحرب طبقية مريرة ومستمرة، في كثير من الأحيان من جانب واحد، ويكون على حساب الشعوب والعالم على نحو كبير.
ويؤكد أنه في النظام العالمي المعاصر، المؤسسات التي لأسياد البشرية سلطة هائلة عليها، ليس فقط في الساحة الدولية ولكن أيضاً داخل بلدانها الأصلية، يعتمدون عليها لحماية سلطتهم وتقديم الدعم الاقتصادي من خلال مجموعة واسعة من الوسائل.
القوة العظمى الثانية
يبين تشومسكي أهمية قوة الاحتجاجات الشعبية وتأثيرها في القرارات السياسية والتي تعتبر مصيرية لشعوب دول أخرى، قائلاً: «ركزت برامج الليبرالية الجديدة من الجيل الماضي على وضع الثروة والسلطة في أيدي قلة قليلة، في حين أنها أضعفت الديمقراطية الحقيقية، لكنها أثارت المعارضة أيضاً، وأبرزها في أمريكا اللاتينية، وأيضاً في مراكز القوى العالمية. وأصبح الاتحاد الأوروبي، أحد أكثر التطورات الواعدة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، يترنح بسبب التأثير القاسي لسياسات التقشف خلال الركود، الأمر الذي لقي إدانة حتى من قبل الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي. وقد تم تقويض الديمقراطية، حينما انتقل صنع القرار إلى بيروقراطية بروكسل، مع إلقاء البنوك الشمالية بظلالها على إجراءاتها».
ويوضح: «وأصبحت الأحزاب الرئيسية تخسر بسرعة أعضاء لصالح اليسار واليمين. وعزا المدير التنفيذي لمجموعة أبحاث «يوروبانوفا» ومقرها باريس، الاستياء العام إلى «مزاج العجز الغاضب حيث إن القوة الفعلية لصياغة الأحداث تحولت إلى حد كبير من القادة السياسيين الوطنيين (الذين، من حيث المبدأ على الأقل، كانوا يخضعون للسياسة الديمقراطية) إلى السوق، ومؤسسات الاتحاد الأوروبي والشركات»، حيث يأتي الأمر تماماً في صيغة اتفاق مع مذهب الليبرالية الجديدة».
ويضيف: «تجد أن عمليات مماثلة جداً جارية في الولايات المتحدة، لأسباب مشابهة إلى حد ما، وهي مسألة ذات أهمية وتثير القلق ليس فقط بالنسبة للبلاد لكن، بسبب قوة الولايات المتحدة في العالم. وتسلط المعارضة الصاعدة في وجه الهجوم النيوليبرالي الضوء على جانب مهم آخر على القول الدارج: إنه يضع الجمهور جانباً، والذي غالباً ما يفشل في قبول الدور المسند له ك «متفرج» (بدلاً من «مشارك») في النظرية الديمقراطية الليبرالية. وكان مثل هذا العصيان دائماً مصدر قلق للطبقات المسيطرة في تاريخ الولايات المتحدة».
جريمة غزو العراق
يشير تشومسكي إلى أنه كثيراً ما يقال إن «المعارضة الشعبية الهائلة لغزو العراق لم يكن لها تأثير. الأمر يبدو غير صحيح بالنسبة لي». ويعلق: «أحياناً تختار الدول اتباع الرأي العام، منتزعة بذلك الكثير من الغضب في مراكز السلطة. وكان الحال كذلك في عام 2003، عندما دعت إدارة بوش تركيا للانضمام إلى غزوها للعراق. حيث عارض 95 في المئة من الأتراك هذا التحرك».
ويشير إلى أن الجمهور التركي لم يكن وحده في هذه المعارضة، فقد كانت المعارضة العالمية للعدوان الذي شنته الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى كاسحة. ويضيف: «بالكاد ما يصل الدعم لخطط حروب واشنطن إلى 10٪ في أي مكان تقريباً، وفقاً لاستطلاعات الرأي الدولية. كما أثارت المعارضة احتجاجات ضخمة في جميع أنحاء العالم، وفي الولايات المتحدة أيضاً، ربما كانت المرة الأولى في التاريخ التي لقي فيها العدوان الإمبريالي احتجاجاً بهذه الشدة حتى قبل إطلاقه رسمياً».
ويذكر: على الصفحة الأولى من صحيفة نيويورك تايمز، قال الصحافي باتريك تايلر إنه «ربما لا يزال هناك قوتان عظيمتان في العالم: الولايات المتحدة والرأي العام العالمي». ويشير إلى أن الحركة الشعبية المناهضة للحرب أصبحت قوة لا يمكن تجاهلها، الآن، وحتى في السابق عندما جاء رونالد ريغان إلى السلطة مصمماً على شن هجوم على أمريكا الوسطى، حيث قامت إدارته بمحاكاة الخطوات التي اتخذها جون كيندي قبل 20 عاماً عند شن الحرب ضد فيتنام الجنوبية، لكنها اضطرت إلى التراجع بسبب هذا النوع من الاحتجاج الشعبي القوي الذي لم يكن متواجداً بذاك الزخم في سنوات الستينات.
ويجد أن الغزو على العراق كان مرعباً بشكل لا يمكن تصوره، وتداعياته كانت بشعة تماماً. ومع ذلك، كان يمكن أن يكون أسوأ بكثير، لولا الاحتجاجات الشعبية التي عارضت هذا الشكل من الغزو.
نقاط مهمة في الصراع
إن مسألة «من يحكم العالم؟» – يقول تشومسكي في الفصل الأخير من هذا العمل – يقود على الفور إلى قلاقل مثل صعود نفوذ الصين على المستوى العالمي، وتحديها للولايات المتحدة و«النظام العالمي»، والحرب الباردة الجديدة التي تنضج بهدوء في أوروبا الشرقية، والحرب العالمية على الإرهاب والهيمنة الأمريكية والانحدار الأمريكي، ومجموعة من الاعتبارات المماثلة«. ويتحدث عن ثلاث نقاط تعتبر بالغة الأهمية في الصراع على النفوذ العالمي، وهي: شرق آسيا بدءاً من الباسيفيك والتي يشبهها ك»بحيرة أمريكية»، خاصة أن الفترة الأخيرة شهدت قضية خلافية حول تحليق القاذفات الأمريكية في مهمة فوق بحر الصين الجنوبي.
كما يتحدث تشومسكي عن التطورات الصينية في إطار منظمة شنغهاي للتعاون، التي تضم دول آسيا الوسطى وروسيا، ومن المحتمل أن تضم إليها الهند وباكستان وإيران، وهو ما يمكن اعتباره إحياء الصين طريق الحرير القديم، ويمكن لها أن تصل إلى أوروبا، ويتضح ذلك من خلال برامجها التنموية في عدد من الدول.
كما يذكر إقامة الصين في عام 2015، البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، والتي شاركت في افتتاحها دول كثيرة، إذ يمكن أن يصبح منافساً لمؤسسات «بريتون وودز» (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي)، الذي تملك الولايات المتحدة حق النقض فيها. وهناك أيضاً بعض التوقعات بأن منظمة شنغهاي قد تصبح في نهاية المطاف النظير لحلف شمال الأطلسي.
أما النقطة الثانية وهي التحدي القادم من أوروبا الشرقية، حيث توجد أزمة على الحدود الأطلسية الروسية، تعود بجذورها إلى سقوط الاتحاد السوفييتي، وهي ليست مسألة صغيرة، إذ إن توسع الأطلسي باتجاه جورجيا وأوكرانيا يعتبره الكثير «خطأ سياسياً قبل أن يكون مأساوياً»، وهو أمر أعلن عنه الحلف بصراحة في 2008 بصيغة لا لبس فيها، حيث أشار إلى أن:»حلف شمال الأطلسي يرحب بتطلعات أوكرانيا وجورجيا الأطلسية للحصول على عضوية في حلف شمال الأطلسي». الأمر الذي يعتبر تهديداً لمناطق نفوذ روسيا ومصالحها الأساسية بحسب تشومسكي.
أما النقطة الثالثة فهي «العالم الإسلامي» والتي يقف عندها تشومسكي إذ يجدها من التحديات البارزة، حيث تعد مسرحاً للحرب العالمية على الإرهاب التي أعلن شنها جورج دبليو بوش في ال11 من سبتمبر/أيلول من عام 2001 بعد الهجوم الإرهابي على برجي التجارة في نيويورك، ولا يجده تشومسكي إعلاناً مستقلاً بحد ذاته، بل إعادة إعلان، إذ إن ريغان عندما تولى منصبه، تحدث في خطاب محموم عن الإرهاب وما سماه جورج شولتز وزير خارجيته «عودة إلى البربرية في العصر الحديث»، وما ينتقده تشومسكي هو تحولها بسرعة كبيرة إلى حرب قاتلة ومدمرة عانت منها دول كثيرة، مع تداعيات لها حتى الوقت الحاضر، وتدان عليها الولايات المتحدة.
يتحدث عن الحرب الأمريكية في أفغانستان، التي كلفت الأفغان الكثير من الدماء والمعاناة والدمار، ويتوقف عند الهدف التالي لإدارة بوش وهو العراق، حيث يشير إلى أن الغزو الأمريكي – البريطاني للعراق جريمة كبرى في القرن ال 21. إذ أدى إلى مقتل مئات الآلاف من الناس في بلد كان يعاني في السابق دمار المجتمع المدني فيه، بسبب العقوبات الأمريكية والبريطانية التي كانت تعتبر أشبه ما يكون ب «الإبادة الجماعية. فضلاً عن أن الغزو خلف ملايين اللاجئين، وحرض على الصراع الطائفي الذي يعانيه العراق وكذلك المنطقة بأسرها».
ويذكر أن استطلاعات وزارة الدفاع الأمريكية والبريطانية وجدت أن 3٪ فقط من العراقيين اعتبروا الدور الأمني للولايات المتحدة في أحيائهم تتسم بالشرعية، وأقل من 1٪ اعتقدوا أن «التحالف المكون من (الولايات المتحدة وبريطانيا) كان جيداً لأمنهم، في حين أن 80٪ منهم عارضوا وجود قوات التحالف في البلاد، والأغلبية دعمت الهجمات ضد قوات التحالف. ويؤكد أن الولايات المتحدة عانت من هزيمة قاسية في العراق، وتخلت عن الأهداف الرسمية للحرب، وغادرت العراق لتتركه تحت تأثير المنتصر الوحيد، إيران. كما يشير تشومسكي إلى الدور السلبي لكل من (بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة) في ليبيا، التي أصبحت مرتعاً للإرهاب، بعد أن أصبحت في حالة من الخراب والدمار، تعيث فيها الميليشيات المتحاربة فساداً.
نبذة عن المؤلف
نعوم تشومسكي: عالم في اللغويات واللسانيات، وفيلسوف أمريكي، من بين أبرز المنتقدين للسياسة الخارجية الأمريكية في العالم، وأكثر من يستشهد بآرائه في الكتب آخر مئة عام. نشر عشرات الكتب المؤثرة، والمقالات عن السياسة الدولية والتاريخ واللغويات. ومن بين كتبه الأخيرة: «أسياد البشرية»، و«آمال وتوقعات»، «واشنطن وفاشية العالم الثالث» بالتعاون مع إدوارد س. هيرمان.