صناعة السيف … التغيير العقائدي في الجيش الأمريكي
تأليف: بنجامين جينسن/ عرض وترجمة: نضال إبراهيم
يمكن القول إن العقيدة العسكرية تعني مجموعة المفاهيم والمبادئ والسياسات والتكتيكات والتقنيات والتدريبات والأساليب المُستخدمة أو المُتّبعة لضمان كفاءة تنظيم وتدريب وتسليح وإعداد وتوظيف المؤسسة العسكرية لوحداتها التكتيكية والخدمية.
هذا المصطلح الذي يمكن تناوله بأبسط تعريف مفاهيميّ (على أنه «الفكرة الأساسية للجيش») أو يمكن الغوص في تفاصيله النظرية وتطبيقاتها هو جوهر موضوع كتاب «صناعة السيف: التغيير العقائدي في الجيش الأمريكي» لمؤلفه بنجامين جينسن والصادر عن مطبعة جامعة ستانفورد في 204 صفحات في شهر فبراير/ شباط الماضي.
يتكوّن الكتاب من ستة فصول «أن تغير جيشاً»، «المعركة الأولى في الحرب التالية»، «المعركة المركزية»، «طبقة المحاربين الجدد»، «إعادة النظر في الالتزام العاطفي والعقلي» و«الحاضنات، شبكات الدعم، والتغيير التنظيمي».
يجري الكتاب بحثاً تاريخياً مقارناً يتعقب عملية إصلاح العقيدة العسكرية في الجيش الأمريكي. وتطرح النتائج التي يتوصل إليها أن هناك عدداً من المسيّرين المؤسساتيين القادرين على التغيير لكنهم غير مشمولين داخل المنظمات العسكرية. وبالتالي، فهو يطرح فكرة أن التغيير في المنظمات العسكرية يتطلب «حاضنات» فكرية (برامج تطوير)، كوحدات فرعية مخصصة يتم تشكيلها خارج الهرم البيروقراطي المعروف، و «شبكات دعم» تتلخص مهمتها بالدفاع عن المفاهيم والمبادئ الجديدة ونشرها فيما بعد. حيث تقوم هذه الحاضنات، التي تتنوع خلفيات أفرادها من جماعات الدراسات الخاصة إلى الخبراء الميدانيين، بتوفير مساحة آمنة للبحث والتجريب وبناء مفاهيم تأسيسية جديدة. ثم تقوم شبكات الدعم بربط المفاهيم التأسيسية المختلفة وإدخالها ضمن المفاهيم التي طورتها تلك الحاضنات، ما يؤدي لتغييرات كانت النخب ترفضها في السابق.
وانطلاقاً من أسئلة تتفرع من القضية الأساسية في الكتاب، يبرز تساءل صريح يتعلق بالمؤسسة العسكرية، فهي من المؤسسات البيروقراطية، ويبدو من المعقول أن تعدّ المؤسسات العسكرية مقاومة للإصلاح، وأن تلتزم بحدود التعديلات الطفيفة. لكن منذ عام 1945، أعاد جيش الولايات المتحدة الأمريكية كتابة دليل عقيدته العسكرية والعملياتية أربع عشرة مرة. ومع زيادة ببعض التعديلات، فإنها تعكس، بشكل جمعيّ، تطوراً مهماً في كيفية مقاربة الجيش لحالة الحرب، وجعل الجيش الأمريكي حالة حاسمة وفريدة لقوة قابلة للتغيير وقادرة على فعله. فبماذا يتميز هذا التغيير؟ ماهي العمليات المؤسسية التي طورها الضباط المحترفون عبر الزمن للخروج من قفص البيروقراطية الحديدي؟
وكما ورد في تصدير الكتاب، الذي كتبه اللفتنانت جنرال اتش. ار. ماكماستر، أحد كبار ضباط مركز التدريب والعقيدة الأمريكي (ترادوك – TRADOC)، فإن «واحداً من أهم التحديات التي تواجه المختص العسكري هو كيف تبني مؤسسة تعليمية تطبق الدروس وتستشرف تحديات الصراع المسلح المستقبلي. حيث يبدأ استشراف المستقبل بتحليل الحاضر وفهم التاريخ. إن النظر في استمرارية طبيعة الحرب من جهة، والتغيرات في شخصية المعركة من جهة ثانية، هو أمر أساسيّ بغية اتخاذ قرارات حكيمة تتعلق بمستقبل تطور القوى… ولعلّ في بحث جينسن أهمية خاصة في التأكيد على الحاجة لمنتديات إبداعية يمكن فيها للقادة والجنود تجريب وتصوّر أنماط جديدة من المعارك.
ابتكار الفكرة الجديدة ونشرها
يؤسس الفصل الأول للمقولة الجوهرية التي يحملها الكتاب: دور الحاضنات (برامج التطوير) وشبكات الدعم في تفعيل التغيير العقائدي. لا يكون التغيير، بالضرورة، طبيعياً أو سهلاً في البيروقراطيات المعقّدة والمركّبة مثل المؤسسة العسكرية. وبالتالي، فإن عملية تحفيز هذا التغيير تتطلب إدراكاً فريداً للعوامل المؤسساتية وتأثيرات هذه البيئة وظروفها. كما يستكشف الكاتب في هذا الفصل هذه المعضلة ويراجع وجهات نظر مختلفة حول الكيفية التي يمكن للضباط العسكريين من خلالها الخروج من قفص البيروقراطية الحديدي، بغية تخيّل طرق جديدة للحرب. يعرّف العمل العقيدة العسكرية ويناقش عوائق متنوعة أمام التغيير، كما يناقش النظريات السابقة في الكيفية التي تنشأ بها طرق الحرب الجديدة في البيروقراطية الدفاعية. وبمراجعة هذه المقاربات المختلفة، يمهّد الكتاب لتقديم دور خاص للمهنة العسكرية ودور الشبكات المعرفية في تجاوز هذا القصور البيروقراطي. وبتركيزه على التغيير العقائدي يقول:
تولي الدراسات المتعلقة بالإصلاحات العسكرية في العلاقات الدولية، الدراسات الاستراتيجية، والتاريخ اهتماماً بضمّ العمل على بنية القوة العسكرية والتقنية بالإضافة إلى العقيدة. ويعكس هذا الفرع من الدراسة تركيبة متنوعة من العمل مع قليل من الاتفاق والإجماع. فهم لا تجمعهم سوى نسبة ضئيلة من الاتفاق على مصدر التغيير (مثلاً؛ تغيير أساسي أم ثانوي، مدني أم عسكري)، الكيفية والشكلية (مثلاً، ابتكار، اقتباس، أو المحاكاة)، أو الأسباب (مثلاً، المنظومة الدولية، العلاقات المدنية – العسكرية، سياسات بيروقراطية، معايير وأصول ثقافية، أو التقنية).
ثمة العديد من الدراسات التي تفرّق بين التغيير الأساسي والتغيير الثانوي، وهي غالباً ما توازي بين الاستعارة التحليلية لمستويات الحرب. كما أن هناك فارقاً لا بدّ من التطرّق إليه، وهو متعلق بتعريف السبيل نحو التغيير. حيث إن الابتكار يشمل تقنيات عسكرية، تكتيكات، استراتيجيات وبنى جديدة متطورة. كما أن الابتكار، كتغيير أساسي، تواكبه غالباً تحوّلات في الأهداف، الاستراتيجيات الواقعية أو بنية المؤسسة العسكرية.
يتنوع تغيير العقيدة بين عدم وجود تحوّل في تعريف المشاكل أو المهام الرئيسية (أي أنه هنا يسود الوضع الراهن) إلى إعادة التعريف على أعلى المستويات لكل من طبيعة التهديد وطرق الاستجابة التي تدلّ على نظرية انتصار ناشئة. بين هاتين المرحلتين، يمكن لتغيير العقيدة أن يكون ثانوياً، ليعكس إصلاحاً جزئياً فقط (مثلاً، تغيير الدرجة)، أو شكلاً من أشكال الإصلاح تقريباً (فكرٌ قديم في إطار جديد)».
العقيدة العسكرية الجديدة كضرورة
يتعقب الفصل الثاني بشكل تاريخي نشوء عقيدة الدفاع الفعال Active Defenseفي عام 1976. كما يختبر هذا الفصل بشكل تجريبي، خصوصاً، السياق الاستراتيجي من ناحية كيف قام المخططون العسكريون بالتصالح مع عقيدة نيكسون، والعوائق التي وجدت في أن يكون الجيش كاملاً من المتطوعين، سيّما مع الموارد المحلية المتراجعة.
استخدم كبار الضباط مثل الجنرال وليام دي بوي تحليلاتهم للحرب العربية – «الإسرائيلية» كواحدة من وسائل تصوّر ما يمكن أن تكون عليه حرب تقليدية مستقبلية في أوروبا. كانت المشكلة العملياتية تستلزم عقيدة جديدة. ومن هذا المنظور، يستكشف الكاتب في هذا الفصل مبادرات الإصلاح المؤسساتي التي تولّد عنها مركز التدريب والعقيدة الأمريكي (ترادوك – TRADOC). كان TRADOCحاضنة أساسية قدمت ل دي بوي ورفاقه من الضباط الشباب الحيّز الذي كانوا بحاجة إليه لإعادة كتابة العقيدة التقليدية للحرب الباردة.
مواجهة التحديات
أما الفصل الثالث، فيستكمل محاولة استكشاف ظهور عقيدة المعركة العسكرية الأرضية الجوية Air-Land Battleكردّ على المفاهيم المتغيرة إزاء تهديد الاتحاد السوفييتي والمفاهيم العسكرية الحديثة. أولاً، يدرس الفصل التهديدات التي وجّهت، وقادت على وجه التحديد، اهتمامات الأمن القومي واعتباراته في نهاية السبعينات وخلال الثمانينات نحو التأكيد على مخاوف محددة صرّح بها القادة العسكريون. حيث انشغل الرأي العام بين الأوساط المتخصصة والعامة بمسألة التوازن المتفق عليه والمعمول به في أوروبا والتخطيط المتزايد لاحتمالات غياب حلف شمال الأطلسي (ناتو) في جنوب غرب آسيا والشرق الأقصى. ثانياً: يوضح التحليل، بالشرح الدقيق، الأسس المفاهيمية لتجديد العقيدة في إطار تطور المعركة العسكرية الأرضية الجوية. وبشكل خاص، نشوء مفهومين اثنين: المعركة المركزية، وساحة المعركة الموسّعة، وهما مفهومان لعبا دوراً رئيساً في تحديد الشكل الذي ستتطور به العقيدة العسكرية في مطلع الثمانينات. وفي كلتا الحالتين، فقد أثبتت الحاضنات وشبكات الدعم دورها المركزي في مساعدة المنظّرين العسكريين لتعريف المشاكل العملياتية ونشر مفهومهم الجديد عبر المؤسسة.
ما بعد الحرب الباردة
في الفصل الرابع، يرصد الكاتب كيف عبّر الضباط الكبار في TRADOCوالإدارة العسكرية عن التهديدات التي تلت الحرب الباردة. حيث ترصد القضية مبادرات TRADOCالمرتبطة بتأسيس باراديغم (إطار نظري وفكري) لأسلوب خوض الحرب الجديدة تبلور في يونيو/حزيران 1993 من خلال نشر وثائق كالدليل الميداني FM100-5، العمليات، ومن ثم تبعه في 1994 نشر TRADOCللكتيّب 525-5، عمليات القوة XXI. وقد تضمن الدليل الميداني الجديد FM100-5 تعديلات أوسع لقوات الطوارئ إبان انتهاء الحرب الباردة. ربطت القوة XXIهذه النظرة المتعلقة بالتهديد المحتمل أينما كان مع المفهوم الجديد الذي بات يحكم بشكل أفضل عبر تقنية المعلومات. وبتتبع هذا الموضوع، يكشف الكاتب عن الدور الذي ساعدت به الحاضنات وشبكات الدعم الضباط لتطوير ونشر أفكار جديدة حول كيفية تنظيم القوات على المستوى العملياتي. ويقول:
«قدّمت الحاضنة الفكرية آليات مؤسساتية حاسمة أخذ من خلالها جيل محاربي الحرب الباردة بإعادة تخيل المعركة ومهامهم الجوهرية. امتلك الجيش القيادة. وفي مطلع 1987، بدأ ضباط كبار بتخيل أنماط حديثة من المعركة عبر مستقبل المعركة الأرضية الجوية. لقد وجد من امتهنوا المجال العسكري أنفسهم في وضع يكون فيه تجاهل الأولويات الدولية والمحلية للتغيير مهدداً للاستقلالية المؤسساتية».
فكر قديم في إطار جديد
يدرس الفصل الخامس تطور الدليل الميداني FM3-24، عمليات الطوارئ ومكافحة التمرد، كبندٍ من تجديد العقيدة العسكرية. وفيما يعكس هذا البند التغيير في العقيدة العسكرية، فإنه لم يحظ في ذلك الوقت بالاهتمام الكبير. بدا أن الحاضنات الفكرية وشبكات الدعم قد أهّلت مجموعة من المفكرين حول الجنرال ديفيد بيترايوس، كان عملهم أقرب ما يكون ل»صائغي الخطط»، من أجل تحويل أسلوب تفكير مؤسسة الدفاع الأمريكية بشأن قوات الطوارئ ومكافحة التمرد. لقد غيّر الدليل، وما تلاه من اندفاع، في معطيات الحرب في العراق، لكن الأفكار الجوهرية داخل الدليل لم تكن جديدة أو حديثة التكوين. وإنما قد عكست تقليداً طويلاً في التفكير العسكري بشأن كيف يمكن لمكافحي التمرد وعصابات الشوارع أن يقوموا بما كان يُعرف خلال الثورة الأمريكية ب الضربة المفاجئة. لم تكن هذه العقيدة سوى فكر قديم في إطار جديد.
التكنولوجيا في خدمة العقيدة الجديدة
يلخّص هذا الفصل الأخير النتائج الرئيسية ودور الحاضنات وشبكات الدعم في تمكين التغيير العقائدي في الجيش الأمريكي. أولًا، تطرح النتيجة برهانا على هذه الآليات المؤسساتية في كلّ واحدة من الحالات التاريخية للتغيير العقائدي. ثانياً؛ تستخدم هذه النتائج لتعكس الأسلوب الذي تتغير به المؤسسات العسكرية ومضامين السياسة الدفاعية. أما التوصية الأساسية البارزة فهي الحاجة إلى الحفاظ على الحيوية الفكرية واستدامتها في الصناعة العسكرية. ويدعو الكاتب في هذا الفصل الأخير لتشجيع واستدامة تمويل التعليم والتجريب كوسائل لضمان دخول أفكار جديدة إلى هذا المجال. وبالإضافة إلى هذا، فإنه يسلط الضوء على الحاجة إلى وجود ثقافة مهنية يمكن من خلالها للقادة أن ينشروا أفكارهم الجديدة وأن تشجّع، بالتالي، مرؤوسيهم لفعل الأمر نفسه. ويقول: «بالإضافة إلى الدوريات المتخصصة، على حرب الأفكار أن تحدث على الإنترنت (أونلاين) في منتدى يكون مناسبا للضباط الشباب. بدأ هذا التوجه نحو منصّات إلكترونية على الويب لتفعيل المشاركة الفرعية لأفضل الممارسات في عام 2000 عندما أنشأ بعض الضباط الشباب موقعاً إلكترونياً في وقت فراغهم. كانت الفكرة أن يُعاد تخيل منتدى مهنيّ كمجموعة من اتصالات ومحادثات «طرف لطرف» تتقاطع مع البنية العسكرية، غير محدود بالجغرافيا أو الشكل التنظيمي والمؤسساتي».
نبذة عن الكاتب
بنجامين م جينسن: كاتب وأكاديمي أمريكي، أستاذ مقيم في كلية الخدمة الدولية في الجامعة الأمريكية بالعاصمة الأمريكية واشنطن. من خلال بحثه الأكاديمي وعمله الميداني، يكرّس جينسن اهتمامه لاكتشاف الطابع المتغير للعنف السياسي والاستراتيجية السياسية. وهو يشغل منصب أستاذ مساعد في جامعة سلاح مشاة البحرية الأمريكية، حيث يدير برنامج الدراسات المتقدمة. يقوم هذا البرنامج بدمج أبحاث الطلاب مع دراسات اختصاصية طويلة الأمد حول مفاهيم الصراع الحربي المستقبلي والاستراتيجيات التنافسية في الولايات المتحدة الأمريكية. وهو ضابط احتياط في الجيش الأمريكي، وشارك في مهمتين سابقتين بكوسوفو (2006) وأفغانستان (2011).