القوة والمال والجمال
يوسف أبولوز
لم يفلح الكاتب «الأرغواني».. إدواردو غاليانو في لعبة كرة القدم، ولكنه علامة فارقة وبالغة الخصوصية في أدب أمريكا اللاتينية البالغ الخصوصية أيضاً.. كان عليه وقد عرف أنه لاعب فاشل أن يخرج من الملعب مرفوع الرأس.. لا كرت أصفر ولا كرت أحمر، ولا صافرة حكم غاضب.. هل تعلم ماذا فعل؟؟.. ذهب إلى الكتابة، وبالكتابة أصبح الرياضي الفاشل إدواردو غاليانو أهم من «لويس سواريز».. غير أن الاثنين لاعبان بارعان.. الأول وثق تاريخ الأرغواي وأمريكا اللاتينية بلغة رشيقة في كتابه الرياضي المذهل «كرة القدم في الظل والشمس».. والثاني مهاجم قناص، كما يأتي في تحليلات الرياضيين.. رأس حربة، يسجل من أنصاف الفرص، وإذا أردت.. «غاليانو» الكاتب هو الآخر مهاجم قناص.. وعن فشله في الكرة يقول برشاقة.. «..مثل كل الأرغوايين حلمت أن اصبح لاعب كرة قدم، وكنت ألعب جيداً، كنت ممتازاً، ولكن في الليل فقط أثناء نومي، أما في النهار فأنا أسوأ قدم متخشبة شهدتها ملاعب الأزقة في بلادي..».
من الأزقة، ومن تحت بيوت الصفيح وأكواخ الخشب والقش خرج للعالم أكثر لاعبي كرة القدم عبقرية في العالم، الغالبية منهم سود (أفارقة)، ومنهم الملونون (أمريكا اللاتينية)، وأتخيل أحياناً أن فتى في العاشرة أو في الثانية عشرة من عمره، من البرازيل أو الأرجنتين أو تشيلي يلعب الكرة حتى لو كانت مصنوعة من الخيش بشهوة شبابية أكثر من شهوته للخبز أو أصبع شوكولاته.
الفضاء الإفريقي واللاتيني في أمريكا (الساقطة سهواً من الخريطة الأمريكية الرسمية الأممية).. لم ينجب الرياضيين فقط، بل أنجب أيضاً أجمل الروائيين والشعراء، وهم على نحو ما رياضيون وكرويون.. ماركيز، فارغاس، جورجي آمادو، رفائيل البيرتي، بابلونيرودا، باث، ميغل انخل استورياس (غواتيمالا) بورخيس.. وهؤلاء وغيرهم أكثر منهم جاء بعضهم إلى الأدب أو حرية الأدب الرياضية من الأزقة، والحارات الترابية الضيقة.
ثروة ماركيز بعد نوبل لا تقل عن ثروة بيليه في زمانه، وثروة نيرودا النوبلي الآخر لا تقل عن ثروة البرازيلي سقراط أو سقراطيس.. وأحياناً، من حق الكاتب أن يتداعى فلم يكن فيلسوف أثينا الكبير «سقراط» وكانت زوجته ترميه بالحجارة وتنكد عليه حياته بالبصل والكلام السيىء يلعب كرة القدم، ولكنه «سقراط» أمس واليوم وغداً، وأظنه هو الآخر خرج فيلسوفاً من مكان معتم بارد حزين في أثينا البحرية المتوسطية.. ملهمة الفلاسفة أكثر من إلهامها الشعراء.
الرياضيون، ورجال المال، وبعض رجال السياسة.. وربما أكثرهم يصنعون المال والثروات.. سواءً جاءوا من الحواري الرطبة قليلة الإضاءة المحاطة بالجوع والكآبة الاجتماعية العامة، أو سواءً جاءوا إلى حظوظهم على أطباق من الفضة.. المهم هنا هو التالي: العقل، الوقت، الذكاء.. ومع ذلك الروح الإنسانية العالية والكفاءة.. والروح الرياضية.
بالقرب من هذه الطبيعة البشرية: العقل، الوقت، الذكاء والروح الرياضية الصافية نجح الكثير من كتاب العالم في صناعة المال، ولكنهم لم ينجحوا عبثاً أو اعتباطاً.. لقد أضافوا إلى كل ذلك ما هو أقوى وأجمل في جسد الإنسان وجسمه وصورته.. القلب.
قوة غاليانو الفاشل في كرة القدم كانت في قلبه وكانت قوة غاندي في قلبه، ولم يكن كونفوشيوس، وطه حسين، والعقاد، والمتنبي، والجواهري، ولوركا، وغيرهم من الفلاسفة والشعراء والأدباء الكبار في نفوسهم وأرواحهم بعيدين عن هذه القوة القلبية.. التي لا تصنع المال فقط، بل، وأيضاً تصنع الجمال.
y.abulouz@gmail.com