ما بعد «داعش»
د. حياة الحويك عطية
هل يعني إعلان رئيس الوزراء العراقي الانتصار على «داعش» نهاية فعلية لهذا التنظيم الإرهابي؟ وبعبارة أدق، نهاية لتغلغل ثقافته وروحيته في نفوس تابعيه؟
في تفكيك الاسم تسقط الدال فقط، تسقط الدولة وتبقى العراق والشام، مضافة إليها كل أحرف الأبجدية الأخرى التي ستظل تشكل هدفاً محتملاً لشراذم الإرهابيين، في أشكال وتنظيمات قد تمتد من الذئاب المنفردة (التي يشك في انفرادها) إلى المجموعات الجديدة التي تمنح نفسها أسماء جديدة، كما حصل مع مفرخة «القاعدة».
يسقط حلم «الدولة» الذي لم يتجاوز يوماً أطر الحلم، إلا ليشكل أداة استقطاب: استقطاب جاذب لكل أولئك الذين فقدوا أحلامهم في أية دولة، وراح يغريهم حلم دولة الخلافة، التي أغرقهم الخطاب الديني والتاريخي العربي – الإسلامي في تمجيدها. واستقطاب كاره لكل أولئك الذين أريد لهم أن يشعروا بالرعب والكراهية، بما يبرر أقسى وسائل اقتلاع هذا البعبع الحقيقي.
وراء هذا الستار المدروس بعناية، تظل الأسئلة غزيرة كالمطر، سواء منها تلك المتعلقة بالعارفين الذين خططوا لقيام «داعش»، وسيطرته على ثلث العراق والشام، ومن ثم للقضاء عليه، أو تلك المتعلقة بالذين توافدوا إلى هذا التنظيم الإرهابي من العراقيين والعرب والأجانب، وفي اعتقادهم انهم إنما ينتقمون، أو يتسلطون، أو يقيمون النموذج. أسئلة هي نفسها ما تجيب عن سؤال ما بعد «داعش».
* أولاً: هل انتهى «داعش» نفسه من الرقة ودير الزور، بل من تلعفر ونينوى ووادي الفرات؟ أم أن ما انتهى هو دولته في الموصل؟
* الثاني: هل انتهت، أو تحققت، الأهداف التي كانت الأطراف الإقليمية والدولية المتصارعة تريدها من وجود «داعش»، ولم يعد التنظيم ينفعها كورقة ضغط لتحصيل مكاسب سياسية وعسكرية، فقبلت بأولوية الخلاص منه؟
* الثالث والأخطر، هل يستعمل القضاء على «داعش» ستارة تغطي على بقاء وتسويق التنظيمات الأخرى التي لا تختلف في شيء عن «داعش»، من «النصرة»، إلى «جيش الإسلام»، إلى «أحرار الشام»، وغيرها العشرات؟ وها نحن نرى انقضاضها على «داعش» في الشمال السوري.
* الرابع، هل انتفت العوامل التي أدت إلى نجاح «داعش»، أم أنها لا تزال فيروسات نائمة جاهزة للإحياء والتفشي بأشكال جديدة في أي وقت؟
علينا أن نعترف أولاً، بأن «داعش» الدولة لم يكن يوماً إلا وهماً مؤقتاً، ولكن «داعش» الفكر والروحية قائم. وأن ثمة عوامل سياسية، سيكولوجية – اجتماعية وفكرية – ثقافية واقتصادية لعبت دورها في انتشاره. وعلينا البحث عن مآلها، اليوم بما يحدد تعيين العلاج اللازم لها، وإلا بقي «داعش» حالة اجتماعية عقدية منتشرة بدولة، أو من دون دولة. ثقافة وقناعات غرائزية لا تقاوم إلا بثقافة مضادة. بدءاً من المعادلة المذهبية التي إذ تذهب إلى أقصاها لا تؤدي إلى ما أدت إليه. فعندما تتحدد الهوية بالعرق والمذهب، فلا نستغرب أن يقع كل طرف فريسة من يعرف كيف يستغل حسه الفئوي. أما إذا عرفت الهوية بالمواطنة، وبها فقط، فإن تشكل الدولة الأم يكون ممكناً وطبيعياً. وتصبح هي مصدر الحماية ومصدر الحقوق.
باختصار الهروب من حاضرك نحو ماض ما تظنه الأفضل، أو نحو ما يمثله تحديثاً.
فبمن تبني الوطن؟ بدستور المحاصصة، وأحزاب المذاهب والطوائف وأحقاد متوارثة ليس أقلها ما تركته الحرب العراقية – الإيرانية؟ أم بالفساد المالي والإدراي والسياسي؟ أم بخريطة سياسية جديدة وثقافة جديدة، ونظام اقتصادي جديد؟
سؤال يبنى على الحالة العراقية، وينسحب بالتالي على كل الحالات الأخرى، وبشكل خاص على الحالة السورية، حيث لا يزال «داعش» متعايشاً مع عشرات التنظيمات التي تشبهه. وهنا يقتضي العقل التوقف بإصرار أمام المشروع السياسي المطروح لما بعد الأزمة وفي المقدمة الدستور الجديد الذي وضع على رأس جدول جنيف.
في المقلب الثاني تبرز الأهداف، تعميق الشرخ الوطني، شئنا أم أبينا، تعميق التخلف والفقر والدمار، وهنا يطرح الدمار الهدف الذي لا يقل خطورة، وربما يزيد، إعادة الإعمار. فمن الذي سيقود مشروع مارشال الجديد؟ وما هي الطبيعة الاقتصادية ومنظومة القيم الثقافية الاجتماعية الملازمة لها؟ لا شك في أن كل حروب العصر هي حروب الشركات، والشركات المتعددة الجنسيات، لكن هذه الشركات العابرة للقارات مرتبطة بدورها بمراكز قوى معينة، هي ذاتها التي تأتي بهذا الرئيس، أو ذاك، وتصنع هذا الوزير، أو ذاك على مستوى العالم. كما أن كل شركة منها مروية بصالصة معينة: امريكية، صينية، روسية، كندية الخ.. والأخطر أن لكل منها فروعها الإقليمية، ومن ثم المحلية التي لا تأتي في الحسبة إلا بمثابة عقد الباطن. ولهذه كلها صراعاتها وحساباتها التي لا تأخذ في الاعتبار، قدر بوصة، المصالح الوطنية للبلد المعني، والأهم المصلحة الإنسانية للمواطن المعني. فأي اقتصاد ستحمل لنا مرحلة ما بعد الحروب؟ سؤال تتفاقم خطورته مع كون هذه الحروب – كما سواها – حرب الثروات الاقتصادية بمواردها، وخطوطها، وأنابيبها، وحرب سوق السلاح، ومن ثم سوق إعادة الإعمار. فيما يقودنا إلى سؤال قد يبدو مبالغاً فيه: ألم يكن في صميم الخطة أن يسهل تدمير كل شيء، ليعاد بناؤه بثمن الثروات ومصادرة الإرادة؟
وأخيراً، المعالجة الأمنية الاستخبارية التي تحدث عنها العبادي في خطاب «النصر» المسجل سلفاً، لا تشفي ولا تبني، إنما هي عملية تعزيز بيئة حاضنة لحياة الفيروسات، وتكاثرها، ولو كموناً، إلى أن يراد تفعيلها من جديد. لا نقول إنها ليست ضرورية، ولكنها تسير بمحاذاة المعالجة الثقافية – وفي مقدمتها الخطاب الديني- ومفهوم المواطنة وال«نحن»، وقوة الدولة، وتحملها لمسؤولياتها إزاء المواطن، معيشياً وأمنياً، وعدالة، وحرية.
hayathanna@hotmail.com