30 عاماً من العلاقات «الخبيثة»
تأليف:ديفيد روبرتس
لا يتوانى مؤلّف كتاب «قطر.. سعي الدولة الصغيرة لدور عالمي» عن توصيف العلاقات القطرية مع كل من إيران و«إسرائيل» بالشاذّة والخبيثة، فقيام الدوحة بتوطيد علاقاتها مع إيران وتأسيس علاقات تجارية ودبلوماسية مع «إسرائيل» أمر يراه الكاتب مثيراً للجدل، مستغرباً عدم سعي الدولة الخليجية لتوطيد علاقاتها مع محيطها الطبيعي الذي من المفترض أنها تنتمي إليه، إن على مستوى مجلس التعاون لدول الخليج العربية حيث الشراكة الثقافية والاجتماعية والمؤسسية أيضاً، أو على مستوى العلاقات مع الدول العربية الأخرى مثل مصر والمغرب والعراق وغيرها.
قطر التي اختارت الطريق الأكثر غرابة و«شذوذاً» – بحسب وصف المؤلّف – ظناً منها أن هكذا علاقات ستقودها بسرعة لأن تصبح دولة إقليمية ذات وزن ونفوذ، تستفيق اليوم على حلم يتبدد، فقد أثبتت الأيام عدم صحة رهانات الدوحة، لا بل وفشل هذه الرهانات، وجل ما حصلت عليه هو توتير العلاقة مع الجار والأخ.
في وقت كانت منطقة الخليج العربي تعيش بين 1980 و1988 في خضم حرب مستعرة هي الحرب العراقية – الإيرانية، كانت الغرف السوداء في الدوحة تستعد – في توقيت مريب ومشبوه – لمرحلة جديدة لدولة صغيرة على ضفاف الخليج بدأت تتلمّس عوائد الغاز الطبيعي، فأرادت لها دوراً ما في هذا العالم.
ويلقي الكتاب الذي بين أيدينا، الضوء على بدايات نسج العلاقة بين الدوحة وطهران والذي يعود – بحسب المؤلّف – إلى وقت مبكر جداً يسبق تولي حمد بن خليفة آل ثاني السلطة بعد انقلابه الشهير على والده، ففي منتصف العام 1987، وفي وقت كان الفتور يصبغ علاقات دول الخليج مع إيران، وبعيداً عن الحرب العراقية – الإيرانية التي عززت النزعات في المنطقة، بدأت العلاقة القطرية المشبوهة مع إيران، علاقات ذات طابع ارتباطي – على حد تعبير المؤلّف – وبعكس العلاقة الإيرانية الفاترة عموماً مع دول الخليج العربي، ويشير مؤلّف الكتاب إلى أن التجهيز القطري لتعميق العلاقات مع طهران بدأ قبيل اندلاع الحرب العراقية – الإيرانية، التي – ربّما – كبحت قليلاً الرغبات القطرية بشكل مؤقت فقط.
يرى الكاتب أن العلاقة القطرية مع إيران، كانت من البدايات مخالفة للنهج المتحفظ الذي تتبناه دول المنطقة عموماً في التعاطي مع طهران للأسباب المعروفة، إلا أن مؤلّف الكتاب يعتبر أن النقطة المحورية في تطور العلاقات الإيرانية – القطرية كانت زيارة قام بها وزير الخارجية الإيراني علي أكبر ولايتي للدوحة في يونيو من العام 1987، ثم أعقبها بزيارة أخرى في العام 1988، ولم يورد الكتاب تفاصيل الزيارتين ولكنه شدّد على أنها لم تكن مجرّد زيارات بروتوكولية، وأتت في سياق بداية صوغ العلاقات بين البلدين، فبعدها بعامين تقريباً بدأت تتكشّف العلاقات بشكل علني.
من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أن علي أكبر ولايتي، (وزير خارجية جمهورية المرشد 1981 – 1997)، يشغل اليوم منذ 2013 منصب رئيس مركز البحوث الاستراتيجي التابع لمجمع تشخيص مصلحة النظام، بعدما شغل منصب مستشار الشؤون الدولية للخامنئي (1997 – 2013).
شهدت الفترة اللاحقة لزيارات ولايتي المتكررة إلى الدوحة، زيارات عديدة بين المسؤولين في قطر وإيران، ويختار مؤلّف الكتاب الإضاءة على زيارتين غاية في الأهمية، إذ مهدتا الطريق للعلاقات الوثيقة التي ستربط البلدين فيما بعد، الأولى في العام 1991، عندما قاد حمد بن خليفة آل ثاني – الذي كان وقتها ولياً للعهد ووزيراً للدفاع – وفداً قطرياً رفيع المستوى إلى طهران، في زيارة رسمية استغرقت 4 أيام، والثانية في العام 1993، لحمد بن جاسم آل ثاني الذي استضافه النظام الإيراني نحو أسبوعين، زيارتان تخللهما استقبال الدوحة في مايو / أيار 1992، حسن حبيبي، نائب الرئيس الإيراني (تولى منصب نائب الرئيس بين 1989 – 2001)، وتم خلال الزيارات المتبادلة البحث مفصّلاً في الكيفية التي ستبنى عليها العلاقات بين البلدين بشقيها الاقتصادي والسياسي، وبالفعل تم خلال الزيارة الأولى لحمد بن خليفة آل ثاني توقيع عدد من الاتفاقيات بين الدولتين.
ويرى مؤلّف الكتاب في هذه المرحلة التي شهدت توطيد العلاقات الثنائية بين كل من قطر وإيران، محاولة مشتركة لربط مصالح الدولتين، فقطر – ويصف المؤلّف – كانت تريد التوسع في علاقاتها الخارجية بأي طريقة وأياً كان الثمن، أما إيران فكانت تبحث عن موطئ قدم لها في الخليج بعد الحرب التي خاضتها مع العراق، والتي أنهكت قواها وعززت من مشاعر الكراهية العربية تجاهها، خصوصا بعد أن بدأت بوادر ثروة قطر في الظهور مع نمو الإنتاج من حقول الغاز الطبيعي والنفط الجديدة والمكتشفة حديثاً.
رأت قطر في إيران وقتها حليفاً استراتيجياً خلافاً لتوجه دول المنطقة، ربما – بحسب مؤلّف الكتاب – لأنها اعتقدت أن توطيد العلاقة مع جار منبوذ في الخليج يمكن أن يؤدي إلى تسويقها وإبرازها على الصعيدين الإقليمي والدولي. وينقل الكتاب عن تقارير صحفية تعود للعام 1992 أنه وبعد مناوشات حدثت بين كل من المملكة العربية السعودية وقطر، أقدمت الأخيرة على توقيع اتفاقيات آنذاك بقيمة 13 مليار دولار مع إيران لبناء موانئ وأرصفة بحرية وطرق في قطر، وينقل الكاتب عن تقارير قولها إن الحكومة القطرية طلبت من نظيرتها الإيرانية حمايتها من المملكة العربية السعودية والوقوف إلى جانبها، الأمر الذي لا يستبعده المؤلّف.
العلاقة الهجينة و«المحرّمة» تواصلت بعد ذلك بفترة طويلة من خلال المحاولات القطرية تعزيز علاقتها مع إيران، بأي ثمن، وهذه المرّة من خلال بعثتها الدبلوماسية إلى الأمم المتحدة في العام 2006، حيث أقدمت قطر – وبشكل صارخ وفجّ – على التصويت ضد القرار الأممي رقم 1696 الذي قضى باستنكار توجهات إيران النووية ودعوتها لوقف برنامجها النووي الذي يهدد المنطقة والعالم، وعلى الرغم من تمرير القرار، فإن موقف قطر أثبت بوضوح دعمها اللامحدود للأنشطة الإيرانية غير المشروعة ومحاولتها التحايل على المجتمع الدولي في سعيها للحصول على السلاح النووي.
ويسرد المؤلّف شريطاً طويلاً من العلاقات القطرية – الإيرانية المشبوهة والهجينة الخارجة عن السياق الخليجي، ويعطي مثالاً على هذا البحث القطري عن الدور، دعوة الدوحة في العام 2007، رئيس النظام الإيراني محمود أحمدي نجاد لحضور قمة دول مجلس التعاون الخليجي، في أول دعوة من نوعها تقوم بها دولة خليجية إلى رئيس إيراني لحضور القمة، وهي الإشارة الصارخة إلى أسلوب سياسة قطر اللاهثة وراء دور ما. ويؤكد الكاتب في هذا الإطار على محاولات الدوحة المتكررة للعب دور ما، حتى إنها دخلت على خط الأزمة السياسية اللبنانية في العام 2008، في خطوة لا يمكن تفسيرها – وفقاً لمؤلّف الكتاب – بأنه تقديم الدعم لمنظمة إرهابية، مشيراً إلى وثائق سرية كشفت أن قطر كانت ترسل 100 مليون دولار سنوياً لدعم أنشطة «حزب الله» الإرهابية.
وفي مؤشر آخر للتماهي القطري مع الفضاء الإيراني، ينقل الكتاب حدثاً فريداً في سياق الجهد القطري المبذول لتبييض صفحتها أمام النظام الإيراني، وفي إطار اللعب على الحبال الدولية بحثاً عن الدور، ففي الوقت الذي كانت فيه وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون تلقي خطاباً شديد اللهجة في منتدى الدوحة 2010 ضد إيران وتوجهاتها وأنشطتها النووية والمريبة في المنطقة، سمحت قطر لعدة سفن حربية إيرانية بالرسو في موانئ الدوحة وقت انعقاد المؤتمر، فيما اعتبره الكاتب مقامرة ومغامرة موصوفة، وخطوة لتحييد جانبين على حساب بعضهما البعض والتلاعب بهما، وفقاً لتوصيف الكتاب.
سعت الدوحة حثيثاً لعدم مضيعة الوقت، وغامرت بكل ما لديها للعب على حبال التناقضات في بناء وتوثيق علاقات متناقضة ممسوخة مع إيران و«إسرائيل».
خلال نفس الفترة التي بلغت فيها الجهود القطرية لتعزيز العلاقة مع الجانب الإيراني ذروتها، عملت الدوحة أيضا على إنشاء علاقات مع «إسرائيل»، مستغلّة مؤتمر مدريد للسلام في العام 1991، والذي أشارت قطر خلاله إلى استعدادها لإنهاء مقاطعتها للكيان الصهيوني. ولم تنتظر الدوحة كثيراً فبعد ذلك بفترة قصيرة، قامت برفع مستوى اعترافها ب«إسرائيل» حتى أصبحت أول دولة خليجية تعترف بالكيان بعد أن قدمت اعترافا حقيقياً بدولة الكيان من خلال الإعلان عن علاقة تجارية بينهما.
استغلال مشبوه
استغلت الدوحة اتفاقيات أوسلو عام 1993 لتبرر علاقاتها التجارية والسياسية مع «إسرائيل»، ومن خلال تبادل العديد من الزيارات الرسمية وغير الرسمية – بحسب المؤلّف – الذي أفرد سياقاً من التضامن الرسمي القطري مع «إسرائيل» خلال اغتيال رئيس الوزراء «الإسرائيلي» إسحاق رابين في العام 1995، حيث شارك وزير الإعلام القطري في الجنازة الرسمية لرابين. وبعد ذلك بفترة قصيرة، سجّل شمعون بيريز رئيس الوزراء الاسرائيلي آنذاك زيارة إلى الدوحة في إبريل / نيسان 1996، وهي الزيارة الرسمية التي مهدت الطريق أمام إنشاء مكتب تجاري ل«إسرائيل» في قلب الدوحة في يوم 24 مايو / أيار من العام نفسه والأول من نوعه والوحيد في دول الخليج، متخذا مقراً يبعد أقل من كيلومتر واحد عن مقرّ الديوان الأميري – المقر الرسمي لأمير قطر.
ويواصل الكاتب سرد تاريخ العلاقة بين الدوحة وتل أبيب، فقد شهدت الفترة تطورا لافتاً في العلاقة القطرية مع الكيان «الإسرائيلي» إلى درجة أن متاجر عالمية لألعاب للأطفال كانت تعرض ألعاباً على شكل طائرات «إف 16» تحمل العلم «الإسرائيلي» للبيع بمتاجرها في الدوحة، على نحو أجج مشاعر غضب لدى جيران الدوحة الخليجيين وكل العرب.
ولم تكتف الدوحة بذلك، بل إنها عبرت مراراً وتكراراً عن تفاؤلها بالعلاقة مع «إسرائيل». وقد تمثلت الصفقة التجارية الأبرز بين الدولتين في الغاز الطبيعي المسال، والتي كانت شركة «إنرون» الأمريكية للطاقة بمثابة وسيط بينهما، وهي المفاوضات التي بدأت منذ العام 1993 وتم إيقافها في العام 1998، بيد أن كلا من قطر و«إسرائيل» لم تخفيا رغبتهما في التوصل إلى اتفاق يقضي باستفادة «إسرائيل» من الغاز الطبيعي المسال من قطر.
قطر تستجدي
في العام 2000، ومع انطلاق شرارة الانتفاضة الفلسطينية، أعلنت الدوحة أنها أغلقت المكتب التجاري «الإسرائيلي» نتيجة ضغوط وانتقادات لاذعة وجهت إليها من جانب الدول العربية والإسلامية، التي استنكرت بشدة المسلك القطري المخالف للتوجه العربي والإسلامي فيما يختص بالعلاقات الدبلوماسية والتجارية مع «إسرائيل». ويرى مؤلّف الكتاب أن المشهد يومها كان يعبّر عن محاولة قطرية بائسة لتقوية وضعها تمهيداً للتطبيع الكامل مع «إسرائيل»، بعد أن ظلت تماطل لفترة من الزمن في مواجهة الاعتراض الاقليمي على مكتب التمثيل التجاري، ويربط الكتاب بين خطوة إعلان إغلاق المكتب التمثيلي وبين استعداد الدوحة لاستضافة قمة منظمة الدول الإسلامية، والتي كان مقررا أن تتسلم الدوحة رئاستها، وهو المؤتمر الذي هددت السعودية ودول أخرى بعدم حضوره مالم يتم إغلاق مكتب التمثيل التجاري، ما أرغم الدوحة على إعلان إغلاق المكتب في نوفمبر / تشرين الثاني من عام 2000، بيد أن تسريبات لتقارير أمريكية سرية أكدت أن المكتب لم يغلق أبوابه يوماً، بل إن الموظفين «الإسرائيليين» واصلوا عملهم في الممثلية التجارية بدون ظهور علني، ترقباً لعودة الحال لما كان عليه قبل إعلان الإغلاق.
وتم إعادة فتح مكتب الممثلية التجارية «الإسرائيلي» بدون إعلان رسمي، وكان يرأسه وقتها روي روزنبليت، وهي الفترة التي شهدت ازدهارا كبيرا في العلاقة بين الدولتين، حيث زارت وزيرة الخارجية «الإسرائيلية» تسيبي ليفني الدوحة وألقت خطاباً في «مؤتمر الدوحة للديموقراطية والتنمية والتجارة الحرة» في إبريل من العام 2008، بيد أن قطر اضطرت في ديسمبر / كانون الأول من العام نفسه إلى إغلاق المكتب مجددا بعد قيام «إسرائيل» بشن عدوان على قطاع غزة، ومجدداً، أعلنت الدوحة – تحت وطأة الضغوط والمطالبات – بقطع العلاقات مع «إسرائيل». وفي العام 2010 و2011 اقترحت قطر، وفقا لتقارير على «إسرائيل» مرتين إعادة فتح المكتب التجاري واستعادة العلاقات الدبلوماسية، بيد أن «إسرائيل» هي التي رفضت المقترح جملة وتفصيلاً. ويقول مؤلّف الكتاب في ذلك: «بعد أن كانت «إسرائيل» تحاول استجداء العلاقة مع الدول العربية والإسلامية لتمييع القضية الفلسطينية، أصبحت هنالك دولة عربية خليجية هي من تستجدي «إسرائيل» لإنشاء علاقات معها».
المؤلّف
الدكتور ديفيد روبرتس مؤلّف كتاب «قطر.. سعي الدولة الصغيرة لدور عالمي»، الذي صدر حديثاً، حاصل على درجة دكتوراه في بحثه عن علاقات قطر الدولية وما يشوبها من ريبة.
انضم روبرتس الحائز درجة دكتوراه من جامعة دورهام البريطانية لبحثه الذي تعمق في العلاقات الدولية لقطر، إلى فريق عمل قسم دراسات الدفاع بكلية «كبنجز»، التي تتخذ من لندن مقراً لها في العام 2013، والتي تتبع الكلية الملكية لدراسات الدفاع. وقد عمل روبرتس سابقاً كمدير لمكتب قطر بالمعهد الملكي البريطاني للخدمات المتحدة لدراسات الدفاع، (RUSIQatar).