أوكرانيا وسط نيران متقاطعة
تأليف:كريس كاسبار دي بلويج / عرض وترجمة:نضال إبراهيم
تعاني أوكرانيا العنف نتيجة تورّطها في حرب أهلية دموية، ويتم اتهام كلا الجانبين المتقاتلين بارتكاب جرائم حرب، بالتعاون مع «الفاشيين»، خدمة للمصالح الأجنبية. ورافقت هذه الحرب بالوكالة بين روسيا والغرب، حرب معلومات عنيفة. فقد أدانت الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي روسيا لضم شبه جزيرة القرم بشكل غير قانوني، ورعاية الإرهاب، وحتى غزو شرقي أوكرانيا. من ناحية أخرى، يدعي العديد من الروس في الداخل الأوكراني أن «حكومة النازيين الجدد» في كييف تمارس التطهير العرقي بحقهم. ويحاول هذا الكتاب تقديم سرد شامل ومستقل للصراع الأوكراني.
يتناول المؤلف في هذا الكتاب – الصادر حديثاً عن دار «كلاريتي بريس» (Claritypress) باللغة الإنجليزية في 269 صفحة من القطع الكبير – خطورة العنف الذي يمارسه القوميون المتطرفون أثناء حركة «يوروميدان» وبعدها، ويوثق كيف أن عدداً من هذه المجموعات هم ورثة للمتعاونين النازيين السابقين. ويبين كيف استولت الدولة الأوكرانية على خطاب الحرب القومية لخدمة أجندة خاصة بها، ونسفت الحريات المدنية على نطاق لم يسبق له مثيل منذ استقلال أوكرانيا.
ويشير دي بلويج إلى أن كييف نفسها كانت أكبر عقبة أمام السلام في منطقة دونباس، مع تسريبات متعددة تشير إلى أن واشنطن تستخدم نفوذها المالي لدفع خط مؤيد للحرب في أوكرانيا. ومع تحول أعين الدولة الأوكرانية نحو روسيا، نجح الاتحاد الأوروبي، وصندوق النقد الدولي في الضغط على أوكرانيا لاعتماد برامج تقشفية بعيدة المدى، في حين استمرت القلة الحاكمة في عمليات النهب لأصول الدولة، وتجنب الضرائب الضخمة التي تيسرها الدول الغربية من دون انقطاع.
يظهر أيضاً أن المعسكرات الموالية للغرب، والمؤيدة لروسيا، غالباً ما تكون مشابهة: النيوليبرالية، السلطوية والقومية، وتعتمد اعتماداً كبيراً على الدعم الأجنبي. ويسعى إلى استكشاف أوسع للعلاقات الروسية الغربية، من خلال دراسته أوجه التشابه بين الدولة الروسية المعاصرة ونظرائها في حلف شمال الأطلسي، إذ يتضح كيف أن تكتل القوى يقوم ببعض من أسوأ التجاوزات العنيفة.
وبعيداً عن الاشتباكات الحضارية، أو الإيديولوجية، يقول دي بلويج إن «التوترات الحالية تتدفق من الهيمنة العسكرية للحلف الأطلسي والموقف العدواني له، على الصعيد العالمي وفي الفضاء ما بعد السوفييتي، حيث تسعى روسيا للدفاع عن الوضع الراهن».
أسئلة النزاع
مع توجيه النقد إلى روسيا، وتمرد منطقة دونباس، يوضح الكاتب أن العديد من الكوارث الأخيرة يمكن أن تعزى إلى المتطرفين القوميين الأوائل، والنخب السياسية الأوكرانية الموالية للغرب. ويرى أن الصراع استخدم ذريعة ل«حرب باردة جديدة». ويحاول فصل الواقع عن الخيال من خلال تقديم وثائق كثيرة وموثوق بها، ومعالجة الأسئلة التالية:
ما مدى الدعم الذي يتمتع به كلا طرفي النزاع داخل أوكرانيا؟ ما هي مظالمهما؟ كيف موضعت الأوليجارشية الأوكرانية نفسها؟ ما هو دور التدخل الأجنبي على جانبي النزاع؟ ما هي أهمية هذه «الحرب الباردة الجديدة» للعالم بأسره؟ ما هي حالة الاستمرارية بين «الحرب الباردة القديمة»، و«الحرب الباردة الجديدة»؟
يحتوي الكتاب بعد المقدمة على 21 فصلاً: 1) بلد مقسم. 2) عودة وولفسانجل (أداة مستخدمة في صيد الذئاب). 3) عسكرة الميدان. 3) تغيّر النظام المدعوم من اليمين المتطرف.4) تغيّر النظام المدعوم من الأوليجارشية. 5) تغير النظام المدعوم من الغرب. 6) فرض التقشف. 7) التغاضي عن الفساد. 8) تفكيك روسوفون أوكرانيا. 9) الشرق يستجيب. 10) الحرب الأهلية تعتّم مشهد أوكرانيا. 11) ذخائر الحرب. 12) تجريد دونباس من الإنسانية. 13) احتضان أقصى اليمين. 14) ما بعد الشعوبية: تقييم تأثير أقصى اليمين. 15) القمع والتسلل في أوكرانيا المقسمة. 16) عرقلة السلام. 17) الرغبة الإمبريالية للحرب. 18) العقيدة العسكرية الغربية وتطبيع جرائم الحرب. 19) رؤية ما وراء الانقسام الإمبريالي. 20) الانقسامات على الجبهة الغربية؟ 21) سياسة الحرب الباردة في عصر ترامب.
بلد مقسّم
يناقش الكاتب في الفصل الأول من الكتاب حالة الانقسام التي تعيشها أوكرانيا، وكيف أنها كانت منطقة نفوذ لعدد من الدول المجاورة لها، ومما يقوله: «على مدى قرون، كانت أوكرانيا منقسمة بين روسيا وبولندا والنمسا. ومنذ أن استعادت أوكرانيا استقلالها في العام 1991، بقيت أرضاً خصبة للتدخل من قبل القوى المجاورة لها. وهذا بشكل جزئي لأن أوكرانيا، عبر تاريخها ما بعد السوفييتي، كانت بلاداً مقسمة بفعل الخطوط السياسية والاقتصادية والدينية واللغوية-العرقية».
ويستمر في التوضيح قائلاً: «ففي المحافظات الشرقية والجنوبية، تعمل الطبقة العاملة الناطقة بالروسية في صناعات تصدّر بشكل كبير إلى السوق الروسية. والعديد منهم لهم أقرباء بشكل مباشر على الحدود. وفي وسط أوكرانيا وغربها، العديد من الناس يتحدثون الأوكرانية في المنزل، وكذلك المتواجدون في الشتات، سواء في أوروبا أو الولايات المتحدة الأمريكية. والعدد الدقيق للروس، من الناحية اللغوية والعرقية، خاضع للتأويل والتفسير، وغالباً ما كان يتم التضخيم أو التصغير بناء على نزوات سياسية..».
ويوضح الكاتب جانباً من التأثيرات اللغوية والعرقية عل حالة السكان والبلاد عبر تقديم إحصاء لها: «وفقاً لإحصاء رسمي في 2001، اعتبر 17 في المئة من الأوكرانيين أنفسهم روساً من الناحية العرقية، في حين أن 29 في المئة منهم اعتبروا الروسية لغتهم الأم. وهذا الإحصاء يكشف أن مصطلح «اللغة الأصلية» يحمل غموضاً. فثلث الأوكرانيين اعتبروا أن لغتهم المتقنة على نحو أفضل أي «الأصلية» هي الأوكرانية، وثلث آخر اعتبرها لغة دولتهم، والربع منهم وازن «الأصلية» مع لغة والديهم، و9 في المائة اعتبروها اللغة التي يتحدثون بها غالباً. بالتالي أسئلة الاستطلاع المختلفة تعطي نتائج مختلفة. وعند السؤال عن اللغة التي يشعرون بارتياح عند التحدث بها، كان هناك انقسام مستقر نسبياً على درجة 50/50 في أوكرانيا».
ويضيف أنه «في المقابل، فإن هذه الانقسامات اللغوية- العرقية ارتبطت مع انتماءات دينية. فأغلبية الذين يدينون بالمسيحية في وسط وغرب أوكرانيا إما ينتمون إلى الكنيسة الكاثوليكية اليونانية، وإما إلى بطريركية الكنيسة الأورثوذكسية الأوكرانية في كييف. ومن ناحية أخرى، تقريباً كل الكنائس في شرق وجنوب أوكرانيا أقل تديناً بشكل عام، إذ تصل نسبة الملتزمين دينياً في محافظات هذه المنطقة إلى 10 في المئة، وبالنسبة لأغلبية المحافظات في وسط أوكرانيا تقترب نسبتهم إلى نحو 25 في المئة، أما المحافظات في غربي أوكرانيا، فكانت آخر من اندمجت في الاتحاد السوفييتي، متهربة لمدة 25 سنة من فرض الإلحاد عليها».
ويشير إلى أن معالجة الثقافة الموالية لروسيا، والأخرى الموالية للغرب، على العموم، تغطي ميوعة الهويات الأوكرانية، وتعطي أهمية كبيرة للانقسامات الثقافية. فاعتباراً من 2003، على سبيل المثال، 23 في المئة من الأوكرانيين عرفوا بأنهم أوكرانيين وروس. بينما 31 في المئة عرفوا بأنهم مواطنو دولة أوكرانيا ويعرفون أنهم أوكرانيون، ومع ذلك يتحدثون الروسية.
تأثير اليمين المتطرّف
يحاول الكاتب في جميع فصول عمله تقديم الحقائق التي تبدو في شكل ما صادمة ومروعة، إذ يمضي في تقديمها بدءاً من الإطار المحلي إلى الدولي، من التاريخي إلى الحديث، محاولاً ربط كل النقاط، وتقديم السياق اللازم لفهم الوجوه المتعددة من الإمبريالية داخل أوكرانيا، وخارجها.
ومن بين ما يمكن الوقوف عليه مسألة مقتل المتظاهرين والشرطة في «ميدان كييف»، وترجمنا مقتطفاً من الفصل الرابع بعنوان «تغير النظام المدعوم من اليمين المتطرف» حول ذلك، يقول فيه الكاتب: «في 20 فبراير/شباط، تتوج العنف بمأساة لم يسبق لها مثيل عندما قُتل عشرات المتظاهرين والشرطة. سيصبح المتظاهرون القتلى يعرفون باسم «المئة السماويون». وتم توجيه اللوم على الفور إلى فيكتور يانوكوفيتش بسبب المأساة، ما تسبب في سقوطه بعد يومين. ومع ذلك، وحتى الآن، تم نشر أول وأكبر بحث أكاديمي مؤلف من 80 صفحة من قبل الباحث الأوكراني، إيفان كاتشانوفسكي من جامعة تورونتو».
ويضيف الكاتب: «تم قبول عرض البحث في الاجتماع السنوي للعلوم السياسية الأمريكية، وهو أكبر مؤتمر أكاديمي لعلماء السياسة في العالم الذين يرفضون في أغلبيتهم المطلقة المقترحات الورقية في عملية التحكيم. كما تم تضمين ملخص للبحث في كتاب نشرته دار النشر الأكاديمية الرائدة «روتليدج». بالاستناد إلى كمية هائلة من اللقطات، والاتصالات اللاسلكية التي تم اعتراضها، وشهود العيان، والبحوث البالستية، من بين أدلة أخرى، يخلص كاتشانوفسكي إلى ما يلي:
الجماعات المسلحة، وقيادة المنظمات اليمينية المتطرفة، مثل منظمات «رايت سيكتر»، و«سفوبودا»، والأحزاب الأوليجارشية، مثل «أرض الأجداد» (حزب يوليا تيموشينكو وآرسيني ياتسينيوك)، شاركت بشكل مباشر، أو غير مباشر في هذه المجزرة الجماعية للمتظاهرين والشرطة. هذا القتل الجماعي كان عملية عَلَمٍ كاذبة ناجحة، نظمها وأدارها عناصر من قيادة «الميدان» والمجموعات المسلحة المخفية من أجل كسب الصراع غير المتماثل خلال «يوروميدان»، والاستيلاء على السلطة في أوكرانيا».
تورط المسؤولين
ويشير المؤلف إلى أنه بعد فترة وجيزة من نشره البحث، كان منزل كاتشانوفسكي في أوكرانيا، الذي استخدمه في أبحاثه، قد تم الاستيلاء عليه بعد محاكمة مشكوك في شرعيتها، إلى جانب إطلاق حملة من التهم الملفقة والافتراءات غير المثبتة لتشويه سمعته. وقد نقل إلى المستشفى عدة مرات في كندا، وفقاً لأطبائه بسبب مستويات الإجهاد غير الصحية. غير أن بعض تأكيداته الأساسية أثبتت لاحقاً من قبل العديد من التحقيقات الصحفية الغربية، منها وكالة الأنباء العامة الألمانية، وصانع الأفلام الوثائقية الأمريكي جون بيك هوفمان، وكالة أنباء رويترز، مجلة السياسة الخارجية، الأستاذ المشارك جوردون هان، وأخيراً حتى المحاكمة الأوكرانية الرسمية التي أجريت في هذا الخصوص. وعلاوة على ذلك، اعترف اثنان من المتظاهرين في «ميدان» علناً بأنهم أطلقوا النار على رجال الشرطة خلال المذبحة التي وقعت.
ولعل أكثر ما يثير الصدمة، أي بعد ثلاث سنوات من المجزرة، أن نائب رئيس البرلمان الأوكراني، أشار إلى أن كبار المسؤولين الحكوميين الحاليين متورطون، وبالتالي عرقلوا التحقيق السليم. إن سلوك بعض الجماعات النازية الجديدة، مثل «سي 12» المتفرعة عن حزب «سفوبودا» (الذي يعني «الحرية» بالأوكرانية وهو أحد الأحزاب الخمسة الرئيسية في أوكرانيا)، كانت أيضاً مشبوهة إلى حد كبير خلال: تعطيل إجراء محاكمة المذبحة لعدة مرات، وتهديد القضاة، وحرق الإطارات أمام المحكمة، في حين أن الشرطة كانت تقف مكتوفة الأيدي».
ويحتوي الكتاب على تفاصيل كثيرة تتعلق بالانقسام الموجود في أوكرانيا، والأسباب التي تزيد من هوة الصراع بين الطرفين المتقاتلين. ويقول بأسف إن قدر الشعب الأوكراني ومصير بلاده يؤخذان في الغرف الخلفية في عواصم مثل واشنطن وروسيا وبرلين، ويتساءل: «إذا ما أخذ المتظاهرون سياقاً مستقلاً حينها، من يدري ما كان المستقبل سيحمله لأوكرانيا. ربما ذاك هو الدرس الذي نتعلمه من المأساة الأوكرانية».
نبذة عن الكاتب
صحفي مستقل، ومحلل سياسي. وقد ظهرت منشوراته في عدد من الصحف والمواقع منها «دي غروين أمستردامير» في هولندا، و«فالو ذا ماني» فيهولندا، و«ديسيدنت فويس» بالولايات المتحدة، و«دي فيريلد مورغن» في بلجيكا، «دي أومسلاغ» و«سبانينغ» هولندا. وفي ربيع عام 2016، انضم إلى منصة «أوثنتيك جويرناليستيك» المتخصصة في تناول الشأن الأوكراني عبر الصحافة الاستقصائية، حيث كتب لها سلسلة عميقة وموسعة.