قضايا ودراسات

مئة عام على الوعد المشؤوم

كمال بالهادي

يصادف اليوم الخميس، الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني، مرور مئة عام على إعلان بريطانيا وعد بلفور الذي منحت من خلاله بريطانيا أرض فلسطين العربية إلى عصابات الهاجانا، وانطلقت مأساة شعب عربي، وما زالت مستمرة إلى يومنا هذا. قرن كامل مر على ذلك الوعد المشؤوم الذي تسبب بقتل وتشريد الملايين من أصحاب الأرض، ومع ذلك تصر بريطانيا على الاحتفال، وعلى دعوة رئيس حكومة الاحتلال، لشرب نخب الوعد على جماجم الشهداء.
في ذلك التصريح الذي غير مصير المنطقة العربية، وجعلها تخضع لحسابات القوى العظمى، أعلن آرثر جيمس بلفور وزير خارجية بريطانيا، أن حكومة الملك تنظر «بعين العطف إلى إقامة مقام قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية.» وفعلاً لم تدخر بريطانيا وحليفتها الولايات المتحدة، ومن ثمة كل القوى الدولية، أي جهد في دعم الاحتلال «الاسرائيلي» وتقويته في مواجهة أي تقارب عربي، وفي مواجهة أي محاولة للنهوض والتقدم.
لقد كان إعلان «إسرائيل» بعد هذا الوعد المشؤوم في العام 1948، أي في تلك الفترة التي بدأ فيها الاستعمار التقليدي بالتراجع، والبحث عن وسائل استعمارية جديدة، يمكن من خلالها مواصلة نهب ثروات المنطقة، والأهم منع إقامة اتحاد عربي قوي، يمكن أن يكون قوة دولية تمتلك كل أسباب النهوض والتقدم، ويمكن أن تنافس تلك القوى التي صعدت بعد منتصف القرن العشرين. وبعد مئة عام من ذلك الوعد، يمكن القول إن إقامة «إسرائيل» في قلب المنطقة العربية لم يكن سوى مشروع استعماري جديد، هدفه الأول فلسطين وهدفه الأبعد، تدمير كل عناصر القوة العربية. وبعد مئة عام نجد أن كثيراً من تلك الأهداف قد تحققت على أرض الواقع. فالمشروع الاستعماري، استطاع بوسائل عدة أن يحافظ على مبدأ الصراعات والانشقاقات العربية، ونجح في إعادة بعض الدول إلى زمن العصور الحجرية. لم تكن دولة الاحتلال طوال فترة تأسيسها سوى رأس حربة في مشروع استعماري يبدأ في فلسطين، ولا يتوقف عندها. ويمكن تقديم أمثلة عدة على أهداف هذا المشروع الذي بدأ قبل مئة عام.
– على مستوى دولة الاحتلال، لم يتغير شيء منذ نشأتها إلى اليوم، فمواثيق الحماية يقع إحياؤها من خلال معاهدات تسليح واتفاقيات أمنية، يكون فيها أمن «إسرائيل» خطاً أحمر. ولئن كانت الولايات المتحدة، هي الأكثر إعلاناً عن تلك الحماية المباشرة، فإن بقية القوى الغربية لا تتخلف في تنفيذ الواجب الحمائي لهذه الدولة الاستعمارية. وتيريزا ماي التي تقود الشعب البريطاني في ما تسميه حملة التحرر من أوروبا، تصر على إيذاء الفلسطينيين والعرب جميعاً، من خلال احتفالية بمناسبة مرور مئة عام على وعد بلفور، وفي هذه الاحتفالية إعلان صريح عن ولاء بريطانيا لدولة الاحتلال.
في مستوى القضية الفلسطينية، يمكن القول إن مرور مئة عام على الوعد المشؤوم، ليس هناك من جديد سوى أن القضية الفلسطينية قد فقدت وهجها وعنفوانها، ولم تعد قضية العرب الأولى نتيجة المآسي المنتشرة في أكثر من بلد عربي. في حقيقة الأمر، لم يعد لفلسطين من يدعمها بقوة، ويستعد للقتال من أجلها، إلا بعض الحركات المقاومة التي تعاني العزلة والتوصيف بالإرهاب.
على المستوى العربي، لم يكن غرس «إسرائيل» في المنطقة إلا خطوة في مسار طويل، تكون معه الوحدة العربية خطاً أحمر. وكل من حاول تجاوز ذلك الخط أصيب في مقتل. الإسفين الذي تم دقه في جسد الأمة العربية، يساهم في تأجيج الخلافات والانشقاقات. فقد سارعت حكومة الاحتلال إلى مساندة انفصال الأكراد عن العراق، وعبرت حكومة الاحتلال عن استعدادها للاعتراف بالدولة الكردية لو تم إعلانها. وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على أن وظيفة هذا الكيان هي تعزيز الانقسامات ودفع الخلافات العربية إلى نقطة اللاعودة. إنه بعد مئة عام عن وعد بلفور، يسعى إلى تحقيق الاختراق الذي لم يتمكن منه. إنه اختراق التطبيع مع الدول العربية، وللأسف فإن جدار الصد ألأخير بدأ بالتشقق، وصار التطبيع وجهة نظر، وليس خيانة للقضية.
مئة عام على وعد بلفور، لا يمكن إيجازها إلا في عنوان رواية جابريل غارسيا ماركيز «مئة عام من العزلة». عزلة الشعب الفلسطيني وعزلة قضيته.

belhadikamel85@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى