وهن القوة العالمية
د. ناجي صادق شراب
النظام الدولي يمر بحالة من عدم اليقين والغموض في عملية التحول في بنية القوة، والتي باتت لا تخضع لنظريات التفسير التي اعتدنا على تطبيقها لتفسير حالة التحول من مرحلة إلى أخرى، فلم تعد النظريات الليبرالية ونظريات الواقعية التقليدية وما بعد التقليدية قادرة على تفسير أو التنبؤ بعملية التحول في بنية النظام الدولي، وهيكلية القوة الدولية. فالنظام الدولي مر بمراحل من العلاقات الدولية اتسمت بالثبات والانتظام والالتزام بقواعد القوة التي حكمت العلاقات بين الدول. فانتقل النظام الدولي من مرحلة التعددية التي سادت الفترة من ظهور الدولة القومية في القرن السادس عشر، وتركزت العلاقات بالدول الأوروبية باعتبارها الفاعل الرئيسي المتحكم في العلاقات الدولية على اعتبار أن هذه العلاقات هي علاقات أوروبية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية والتي تراجعت فيها قوة أوروبا لتبرز قوة الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي كقوتين وحيدتين متحكمتين بالقرار الدولي، وليسود نظام القطبية الثنائية الجامدة ولتتطور بعدها إلى الثنائية المرنة. واستمرت هذه المرحلة حتى التسعينات من القرن العشرين في أعقاب سقوط الاتحاد السوفييتي وتراجع القوة الروسية، وليسود ولفترة وجيزة نظام القوة الأحادية حيث سيطرت الولايات المتحدة على قمة هيكلية القرار الدولي.
لكن سرعان ما دخلت العلاقات الدولية مرحلة جديدة من الضبابية وعدم اليقين والتطورات في بنية النظام الدولي ببروز الكثير من الفواعل من غير ذات الدول، كالحركات الإسلامية بكل تشكيلاتها، والحركات الشعبوية والانفصالية في أكثر من دولة أوروبية. وأدى التطور في وسائل التواصل الاجتماعي، والثورة المعلوماتية إلى انتشار غير مسبوق في هيكلية القوة، لدرجة لم تعد الدولة القومية هي الفاعل الرئيسي المتحكم بالقرار الدولي. ولم يقتصر التغير في بنية العلاقات الدولية على تعدد الفواعل الدولية، وتنوعها بل ظهر التنوع وتباين الأولويات في القضايا الدولية، وبروز قضايا باتت تشكل محوراً في كل التفاعلات الدولية كقضايا الإرهاب الذي لم يعد قاصراً على دولة دون الأخرى، ولم تعد الحدود القومية قادرة على توفير الحماية الذاتية. ولعل من أبرز التغيرات في بنية النظام الدولي بداية ظهور الشعبوية الجديدة، وهي صورة قديمة – جديدة لعودة الروح القومية في العلاقات بين الدول، كما نرى في شعار «أمريكا أولاً»، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وبروز التيارات الانفصالية في كاتالونيا. ومن التحولات المهمة التراجع في القضايا ذات الاهتمام العالمي كالمناخ وانسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية المناخ، ومن منظمة اليونيسكو ومجلس حقوق الإنسان، والتهديد بعدم الاستمرار في تقديم الدعم المالي للأمم المتحدة ما قد يؤثر على فعالية ودور المنظمة الدولية وبما ينعكس على فعالية وقوة الشرعية الدولية.
وصاحب هذا التطور زيادة دور الفواعل من غير ذات الدول التي باتت تقوم بدور الحرب بالوكالة عن دول القوة الصاعدة الجديدة. ولم يقتصر التحول في هيكلية القوة على القوة الصلبة، بل زادت أهمية القوة الناعمة مع تراجع دور القوة الصلبة التي كانت تحتكرها القوى الكبرى، وهو ما أدى إلى زيادة دور وتأثير القوى والدول الصغيرة، والذي معه لم تعد التصنيفات التقليدية للدول على أساس معيار القوة صالحة. فقد نجد اليوم دولاً صغيرة بما تملكه من عناصر القوة الناعمة لها تأثير في القرار الإقليمي والدولي لا يقل أهمية عن قرار القوى الكبرى، وهذا التحول انعكس على شكل التحالفات الدولية والإقليمية بشكل كبير حيث لم تصلح معه قواعد ومبادئ التحالفات التقليدية.
وتبقى عملية التحول في بنية النظام الدولي تتسم بالضبابية والسيولة وعدم اليقين لسرعة التحولات، وعنصر المفاجأة ومع ذلك تبدو في الأفق بعض التغيرات مثل التحولات الفكرية المصاحبة لثورة العولمة والثورة الصناعية الكبرى، ومع ذلك ما زالت بعض الثوابت قائمة ولو لفترة غير قليلة كسيطرة وهيمنة الولايات المتحدة كقوة أحادية، ووقوف كثير من التحولات الدولية على الدور الأمريكي، وهذا قد يكون من أكثر الثوابت في عملية التحول في بنية القوة. وتستوجب هذه التحولات قراءة دور القوة على المستوى العربي، وتفعيل عناصرها الممكنة والمتاحة وتطوير مفهوم القوة الشاملة حتى تأخذ مكانتها في خريطة العلاقات الدولية المستقبلية.
drnagish@gmail.com