مرايا ناظم حكمت
يوسف أبولوز
للشاعر التركي ناظم حكمت عبارة يرددها المتفائلون دائماً تقول: إن أجمل الأطفال هم الذين لم يولدوا بعد، وأجمل القصائد تلك التي لم تكتب بعد، في إشارة إلى أن المستقبل هو الأجمل دائماً، وكان صاحب «الحياة جميلة يا صاحبي» قد أسقطت بلاده الجنسية عنه، وعرف السجن، ونفي أو نفى نفسه إلى ما كان يسمى الاتحاد السوفييتي، ولكنه لم يتاجر بمحنته هذه، وظل شاعراً عالمياً إنسانياً، سواء أكان في بلده أم كان في المنفى، لم يجلس يثرثر على مقاهي الرصيف التي يرتادها عادة شعراء يطلقون شعر رؤوسهم، ويرتدون ثياباً كيفما اتفق تعبيراً عن شعور «رومانسي ثوري» كاذب، هو «الرفض» والرفض هذا مفهوم مائع وفضفاض وقابل للمد والطي، تماماً مثل قطعة القماش، فالبعض كان يرفض العائلة مثلاً ويسميها سلطة أو مؤسسة، فتراه يترك أسرته وأولاده ويتشرد مثل أي متسول متشرد، والتسول هنا قد يكون تسول حزب أو جماعة أو إيديولوجية، وما أكثر من تسولوا إيديولوجياً تحت عنوان ما كان يسمى اليسار.. أو مرة ثانية «الرفض».
البعض أيضاً في سياق تلك «الموضة اليسارية» كان يرفض الثقافة السائدة ويرفض التراث، ويرفض حتى اللغة، والبعض كان يرفض حتى نفسه.
ذلك كان نموذجاً عربياً، كانت أكثر تمثلاته في بعض مدن الغرب: المتاجرة بمفهوم المنفى، والمتاجرة بالسياسة، والمتاجرة بالمصطلحات و«الأفكار» البالونية الكبيرة.
بؤس آخر تمثل في تلك المرحلة اليسارية الرفضية الكاذبة وهو النقد الأدبي.. نقد النص الشعري أو الروائي أو القصصي، ولنأخذ الشعر هنا تحديداً.. فقد كان بعض النقاد مسيسين حتى العظم، فالشاعر الذي كان يكتب قصيدة يرشح منها اللون الأحمر الإيديولوجي بنكهة «روسية» تحديداً، كان مرحباً به حتى لو كان شعره عبارة عن رغوة لغوية، أما الشاعر المستقل الذي يحترم استقلاليته وكينونته الإبداعية الذاتية، فقد كان دائماً خارج السرب.. ومطروداً من نعمة النقد، وهكذا ركب شعراء كثيرون على أكتاف الأحزاب.. أو قل ركبوا على أكتاف السياسة، بشعارات شعرية طنانة، ثبت اليوم أنها بلا أي قيمة ثقافية أو جمالية.
لقد عانى الكثير من الشعراء الحقيقيين هذه البلوى الثقافية، وبقوا في الهامش.. وحوربوا في الليل والنهار وأسقطت عنهم «الجنسية النقدية الأدبية» إن صح التعبير.
كان ناظم حكمت شاعراً يسارياً، ولكن كانت في روحه طاقة إيجابية إنسانية عالية، هي يمين الروح وأمانتها، وكان متفائلاً، وأنيقاً.. والأطفال الذين كان يقصدهم كانوا الأجمل فعلاً.. ولكنهم ولدوا في أزمان الحروب التي يرأسها القيصر أو القياصرة الجدد، الذين يؤدي لهم التحية اليوم بقايا شعراء ومثقفي الأرصفة.. ومتسولي أصحاب القمصان الحمراء.. قتلة أطفال ناظم حكمت.. ومن نجا منهم من الموت أصبح شاعراً، وأجمل قصائده لم تكتب بعد..