طعم الصمت
يوسف أبو لوز
في سنوات الدراسة الابتدائية «..الصف الرابع والخامس..» كانت هناك حصة مخصصة مرة في الأسبوع هي حصة القراءة الصامتة، وكانت عادة هي الحصة الأخيرة في اليوم الدراسي مثل حصتي الرسم والرياضة، أما القراءة الصامتة فقد كانت تقتصر على عناوين قصصية في الغالب من مكتبة المدرسة، وإذا كان حظنا جيداً يوجهنا المدرس إلى كتب نبحث عنها في المكتبات العامة، أو مكتبات بيع الكتب والأكشاك المنتشرة على الأرصفة.
حصة القراءة الصامتة كانت لا تخلو من بعض أصوات الطلبة الذين يتبادلون الكتب، أو يهمسون لبعضهم بعضاً بكلمات سريعة صغيرة، أما المدرس نفسه فقد كان هو الآخر صامتاً ويتجول بين المقاعد، وهو يصوب عينيه إلى الكتاب الذي يقرؤه هذا الطالب أو ذاك، وأحياناً يجلس إلى طاولة الصف بالقرب من السبورة ويقرأ صامتاً هو الآخر.
حذفت هذه الحصة في ما بعد من المنهاج المدرسي، بل، وتحولت بعض المكتبات المدرسية إلى مخازن للقرطاسية ومتعلقات المدرسة، من كراتين الطباشير إلى المحايات الوبرية والمساطر والأقلام.
وإذا أردنا أن نشير إلى الحذف الذي طال مدارسنا الستينية والسبعينية تلك، فقد حذفت أيضاً حصة الفلسفة والمنطق، كما حذفت حصة عروض الشعر، لتظهر حصص مدرسية جديدة مثل حصة الموسيقى، وتعود هذه الحصة بالذات إلى الاختفاء من المنهاج المدرسي، كما اختفت أيضاً حصة الرسم، أو قل إننا كبرنا «سريعاً» فما عدنا في حاجة إلى الرسم، مع أن الإنسان كلما تقدم به العمر، وأخذ يرسم، يتحول نوعاً ما إلى طفل.
أعود إلى القراءة الصامتة، وهي قراءة منشطة للخيال، وإذ كانت مخيلات الطلبة آنذاك مخيلات طفولية، أو شبه طفولية، فإن القراءة نفسها كانت مثل الطفل.. تكبر ببطء، وتصبح جميلة ببطء أيضاً.
وأنت تقرأ بصمت تتحول إلى مؤلف صامت، وإلى لغة صامتة، ثم كأنك تمشي في مكان قليل الإضاءة، ودليلك في هذه الحالة هو الكلمات التي تبدو منتشرة في الصفحات مثل النمل الأسود.
في مرحلة القراءة الصامتة، أي في الرابع والخامس وحتى السادس الابتدائي تأخذ الصور في الاختفاء من المادة المدرسية، كي يعتمد الطالب على القراءة من دون حاجته إلى صور مساعدة، وإذْ بك تكوّن أنت وحدك صورك الخاصة بك من خلال اللغة الصامتة، أو من خلال الكلام الصامت، وهي في اللحظة تلك، صور صامتة.
القراءة الصامتة علمت بعضنا فن الصمت، وفن الخيال، وأيضاً فن الرسم بالكلمات، وعندما اختفى ذلك النوع من القراءة اليوم في الكثير من المناهج المدرسية العربية.. كثر الصخب، وكثرت الأصوات العالية.. العالية حتى الصمم.