ربط وحلّ
يوسف أبولوز
التركيبة الاجتماعية والثقافية والنفسية للفلسطيني قبل ثلاثة عقود أو ربع قرن، ليست كما هي عليه الآن، فقد كانت بيئته الوطنية مختلفة تماماً عن بيئة اليوم وطبيعتها الفكرية، فهناك مجموعة من الغيابات فجع بها الفلسطيني خلال تلك السنوات على الرغم من أنه يردد دائماً عبارة شعرية أصبحت ثابتة من ثوابت أدبياته وهي «الحضور في الغياب»، وحقيقة الذات الفلسطينية أن من غاب لا يعوض حتى لو كان حاضراً في الغياب، وما ترداد هذه العبارة سوى شكل من أشكال المكابرة أو عزاء الذات، وطمأنتها بشيء من الأمل الرومانسي، غير أن كل رومانسيات الحزن والعزاء لا تعيد غائباً أو راحلاً إلى الحياة التي أجمل ما فيها أنها لا تكف عن الولادة.
الأساس في هذه المادة هو الجانب الثقافي.. فقد غاب عن بيت الفلسطيني الكثير من الكتّاب والمثقفين والفنانين: إميل حبيبي، ناجي العلي، أحمد دحبور، محمد القيسي، جبرا إبراهيم جبرا، فدوى طوقان، توفيق زياد، وإذا أردت أن تعود إلى من خسرتهم الثقافة الفلسطينية في الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين، فالقائمة تطول بأسماء أخرى من شعراء، ورسامين، ومسرحيين، وأكاديميين لامعين، «.. من ينسى علماً فلسطينياً مثل إدوارد سعيد؟..»، أو حبيب بولس، ويوسف سامي اليوسف، وشيخ النقاد العرب إحسان عباس.
الثقافي سند للاجتماعي وجدار يحمي ظهره من الاختراق والغدر والمثقف في الحالة الفلسطينية تحديداً له تقديره المعنوي بين الناس العاديين البسطاء، وعندما رحل محمود درويش بكى في جنازته نساء ورجال كبار في السن وشباب وشابات وأطفال هو الذي ترك وصيته غير القابلة للنسيان.. «.. على هذه الأرض ما يستحق الحياة..».
هذه الفجوة المرعبة في المجتمع الفلسطيني التي أوجدتها هذه الغيابات المتوالية هزت شجرة الثقافة الفلسطينية التي هي جبهة مدنية فكرية حضارية ضد أساليب الاحتلال الصهيوني الشيطانية، ومحاولاته طمس الهوية الفلسطينية ومحوها بالسرقات والتزييف والإرهاب.
بكلمة ثانية.. الكبار والأعلام والرموز في الجسم الثقافي الفلسطيني غابوا وما من تعويض لهم.. وهؤلاء الكبار لم يكن حضورهم الاعتباري والثقافي فلسطينياً فقط، بل، كان حضوراً عالمياً أيضاً، وبالتالي، كانوا مؤثرين في مؤسسات العالم الثقافية والأكاديمية والإعلامية وحتى كانوا مؤثرين سياسياً، واستقطبوا متضامنين ومتعاطفين وأصدقاء من نخب العالم الاعتبارية والمؤثرة حتى في صنع القرار في بلدانهم.
هذا الأثر الثقافي الفلسطيني في ضمير العالم غاب بل انتهى اليوم تماماً، ومرة ثانية.. من رحل معه أثره المادي والمعنوي في العالم.. مع التأكيد على أن تراث هؤلاء الكبار الأدبي والفكري والثقافي قائم في الذاكرة، وسيبقى قائماً.. لكن الحضور الشخصي وأثره الاجتماعي والسياسي غير موجود.
هل يمكن أن نربط بين حالة الغياب الفلسطينية هذه، وجرأة رجل خطير وعدواني مثل ترامب على تنفيذ وعده المشؤوم باعتبار القدس عاصمة لـ«إسرائيل»..؟.. ربما يمكن الربط.. لكن الحلّ عند مَنْ؟