العصب العربي ومصير القدس
د. نسيم الخوري
تتراكم النصوص والمقدّمات؛ بحثاً عن صيغة جديدة تضاهي صدماتنا في محنة العرب الأولى في القدس وفلسطين، انتابني شعور بالعجز الكامل والضيق؛ حيث ردود الفعل في بلدان العرب والمسلمين تكاد توحّدهم أمامي مجدداً بالتظاهرات، والرفض المثقل بالتردّد والقلق والضياع والهروب من السكن في القهر، وهي مشاعر مؤلمة؛ تجعلك تتلمّس العجز التاريخي في التغيير والتأثير.
ماذا عن الاحتجاج والشجب والإدانة والرفض والتأسّف والتنديد والتحذير والرفض وعدم التأييد والاستنكار؟ ماذا في ترداد أنّ ما حصل ويحصل هو وصمة عار تستوجب بحث التطورات والتبعات الخطرة، التي تنذر بالمخاطر والغضب الساطع الآتي؟
أيحمل المستقبل آمالاً تحققها أجيالنا الجديدة الذائقة لطعم العدالة والتغيير؟ على الأرجح خصوصاً وأنّ المسافات بين عقل الغرب المشبع بـ«إسرائيل»، وعقل الشرق المشبع بمصائبها تضمر بعدما صارت السياحة والكرة ملعباً مشاعاً وسهلاً لأبنائنا للتعلّم والبروز والتحديات الحضارية في نواحي الكرة الأرضية ودوائر القرار. قد يكمن السبب الأقوى لهذا الوضع هو أن ما يظهر لأجيالنا في فلسطين يتناسل حقائق مرّة فصلاً إثر فصل، إلى حدود تعميمها أنموذجاً دموياً مؤلماً يتنقّل في بلاد العرب والإسلام بعنايةٍ ساديّة في الزمان والمكان؛ لتتشابه الجروح والمصائب، ومشاهد الفوضى، وانشغال الأذهان والأجيال. وبعد…
إنّ ما رُسِمَ للقدس صار واقعاً؛ منذ أن أخضعتها «إسرائيل» بالقوّة والخديعة إلى ما يخالف منطوق القرار الدولي بتقسيم فلسطين(181 تاريخ 29 نوفمبر/تشرين الثاني1947)؛ حيث بقيت القدس عربيّة في النص أي خارج القسم اليهودي (53 في المئة)، مروراً باحتلالها الكامل في حرب ال1967، بعدها راحت «إسرائيل» تمطّ مساحة المدينة، وأدمنت تهجير الفلسطينيين منها، وقضم أراضيها بالمستوطنات إلى حدود تفكيك خريطتها السكّانية، وتشويه معالمها العربيّة والإسلامية والمسيحية، ومحوها من الذاكرة عبر الأجيال لا من الصور.
كان لا بد من الرسو على هذه المقدّمة لمن شارفوا السبعين من جراحهم؟
1- للاعتراف بأنّ العديد من العرب والمسلمين الذين صدموا بترامب؛ ربما لأنّ مصير المدينة المقدّسة في زمن الحروب والتنازع العالمي على مفاهيم القداسة يقرع باستحقاقه الخطر عبر وسائل الإعلام، وبقوّة العيون والآذان عبر الكلمة/ الوعد المعلن والمقيم في لسان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منذ حملته الانتخابيّة بنقل سفارة بلده إلى القدس؛ لتصبح العاصمة الأبدية لـ«إسرائيل». صحيح أنها لازمت ألسنة رؤساء أمريكا؛ لكنها بدت ثابتة مع ترامب لأسباب كثيرة.
2- كان لا بدّ من المتابعة والانتظار؛ للتذكير الأكثر إيلاماً بأننا لطالما كنّا على هذه الحال منذ تلمّسنا العجز المتنامي الدامي وتفاقمه. كنا نحتفل في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي 2017، عرباً ومسلمين مفكّرين وكتّاباً وبخجل فاضح لم أفهمه بذكرى مرور مئة عام على الوعد الرهيب، الذي أطلقه آرثر بلفور وزير خارجية بريطانيا (في الثاني من نوفمبر1917) إلى المصرفي اليهودي والعضو في حزب المحافظين البريطاني ليونيل والتر روتشيلد، بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وشكل بداية إعلان دولة «إسرائيل» (14 مايو/أيّار 1948)، وهو اليوم نفسه الذي أعلنت فيه بريطانيا نهاية انتدابها على فلسطين. منذ ذلك التاريخ زرع أباؤنا في رؤوسنا فكرة أنّنا في حالة حرب، وهي حالة تستلزم سلوكاً وثقافة واستراتيجيات متقدّمة، ومواقف كبرى إلى حدود الإعياء.
3- لأنّ ابنتي ريّا المقيمة في لندن كتبت لي عبر«الواتس أب» وبإلحاح وقلق لافتين غير مألوفين لدى بنات وأبناء جيلها من الشباب تسألني بلغة أجنبيّة عن رأيي في ما أعلنه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن القدس، وما إذا كان الأمر يهزّنا؟ وما تداعياته على لبنان والعرب والعالم؟. وقد شكت أنّ متابعة ما يحصل من تناقضات في الخطب والآراء عبر وسائل الإعلام تزيد من الإبهام في الموضوع وتصل إلى حدّ الفوضى. كنت عند اتّصالها قد باشرت كتابة المقدّمة في الموضوع عينه مستغرقاً بالربط بين ما نحن فيه من انهيارات وأفكار أطلقها ابن خلدون في مقدّمته؛ تفسيراً للوعد الثاني بجعل القدس عاصمة لفلسطين، الذي يتجاوز وهجه الوعد الأوّل بانتزاع فلسطين وتقسيمها.
4- أين هو العصب العربي؟.
في الفصل الثالث من المقدّمة، التي تلتها مجلّداته السبعة، تطرّق ابن خلدون إلى الدول والملك والخلافة، ومراتبها وأسباب وكيفية نشوئها وسقوطها، معطياً العصبية المكانة الكبرى في حياة الدول والممالك، رابطاً هذه العصبيّة بشكلٍ محكم بعلاقات تقوى وتضعف؛ تبعاً لدرجات القرابة. وعندما يضيع النسب، ويتجاوز الولاء العائلة إلى القبيلة قد تختفي العصبيات، التي قد تضيع أيضاً في المدن، وتتهددها شدّة الاختلاط؛ إذ تفسد الأنساب عندها بالجملة. ويرى بأنّ العصبية تطول وتشتدّ ويمكن توريثها على امتداد 120 سنة أي أربعة أجيال، وهذا ما استنتجه من خلال دراسته العينية الدقيقة للسلالات الإسلامية، التي حكمت الأندلس، والغرب، والشرق التي عاصر العديد منها؛ بل وكان وزيراً لدى بعضها، ودخل السجن أيضاً وهذا ما منح نصوصه القدرة على الجذب والإقناع؛ لأنّه خبر بما جعله عارفاً عمّا يكتب وكأنّه درس نظام الحكم من الداخل؛ مسجّلاً بأم عينيه ما شهده من المناورات السياسية.
هل يشتدّ العصب العربي في زمن العولمة؟ إنّه السؤال الصعب المودع في أذن كلّ عربي!
drnassim@hotmail.com