ما خفي في قرار ترامب بشأن القدس
عاطف الغمري
توافق مع وجودي في واشنطن، أثناء عملي رئيساً لمكاتب «الأهرام» في الولايات المتحدة، إصدار الكونجرس قراره في أكتوبر/تشرين الأول 1995، بنقل السفارة الأمريكية من «تل أبيب» إلى القدس. يومها كانت أمامي الصورة الكاملة بتفاصيلها للقانون التي حاول الرئيس ترامب التحايل عليها، وإعطائها معنى مخالفا للحقيقة.
ثم جرى بعد ذلك، حين أصبحت مادلين أولبرايت وزيرة للخارجية، في إدارة بيل كلينتون. وقد حضرت لها – كمراسل في واشنطن – مؤتمراً صحفياً، كان لما أعلنته في المؤتمر باسم الإدارة الأمريكية، هدماً لكل ما ادعاه ترامب في قراره الأخير.
ترامب قال إن الرؤساء الثلاثة الذين سبقوه لم يجرؤا على تنفيذ قانون نقل السفارة، لكنه تحلى بالشجاعة ليضع القانون موضع التنفيذ. والحقيقة ليست كما أدعى. فالقانون الذي صدر بناء على مشروع مقدم من السيناتور بوب دول زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ، هذا القانون تضمن نصاً صريحاً يقول إن للرئيس الأمريكي سلطة تعليق To wave القانون – بمعنى تجميده – إذا وجد أنه سيضر بالمصالح الأمريكية، وبأمنها القومي.
وما حدث أن حسابات كلينتون، وبوش، وأوباما، لتداعيات تطبيق القانون، على شعوب المنطقة وكل شعوب العالم الإسلامي، وردود أفعالها، منهم من نقل السفارة. واستمروا في ما سمى قانوناً بتعليق القرار.
وحين عقدت أولبرايت مؤتمرها الصحفي لتشرح فيه انفراد الولايات المتحدة بدور الوسيط النزيه Honest Broker في جهود حل الصراع بين «إسرائيل» والفلسطينيين، فقد كانت عباراتها واضحة في تحديد مواصفات الوسيط النزيه، حسب تعبيرها، بقولها إن ذلك يعنى – ضمن ما يعنيه – أن وضع القدس سيتقرر في مفاوضات الوضع النهائي، بين «إسرائيل» والفلسطينيين، وليس من جانب واحد.
ومعنى ذلك أن قرار ترامب، قد نزع عن الولايات المتحدة أهليتها، لتكون وسيطاً، بل إنه هدم الدور الأمريكي من أساسه.
وما جرى بعد ذلك من إيضاحات لاحقة، سواء من وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون، أو مندوبته في الأمم المتحدة، عن التزام ترامب بجهود الوصول إلى السلام، أو أن الولايات المتحدة لن تنحاز إلى طرف ضد آخر، في قضية الحدود بين القدس الشرقية والغربية، هو لغو لا معنى له، فقد انحاز ترامب فعلاً لجانب «إسرائيل»، ولم يعد مؤهلاً لدور الوسيط – فما بالنا بأن يكون نزيهاً.
ويبقى السؤال: لماذا أقدم ترامب على هذه الخطوة المستفزة، متحدياً ليس الشعوب العربية الإسلامية فقط، بل أيضاً المجتمع الدولي، وحلفاءه في أوروبا، الذين رفضوا قراره، وأصروا على أن وضع القدس يتقرر في مفاوضات الوضع النهائي، وأن المواثيق والقوانين الدولية، وقرارات الأمم المتحدة، تنص على أن القدس لا بد أن تكون عاصمة للدولتين «الإسرائيلية» والفلسطينية.
تلوح في المشهد الأمريكي أسباب تخص ترامب شخصياً، فالمعروف أن السياسة الخارجية، تخضع لحسابات السياسات الداخلية، وكثيراً ما تكون لحسابات الانتخابات، الغلبة في ما يقرره الرؤساء.
ومن الواضح أن ترامب يتعرض لضغوط داخلية شديدة، بدأت مع شكوك، حتى لدى الجهات القانونية، أدت إلى التحقيق في احتمال تدخل روسي في انتخابات الرئاسة الأخيرة، إضافة إلى وجود قطاعات كبيرة من الأمريكيين رافضة له منذ البداية، ما أدى إلى انخفاض شعبيته، وتدني نسبة التأييد له إلى 35% في استطلاعات الرأي.
وهناك مؤشرات على إنه أراد أن يجذب إلى صفه، شريحة من الأمريكيين لها وزنها في صناديق الانتخابات، ومعروفة بانحيازها الجنوني ل«إسرائيل»، وعدائها للعرب، وهم من يسمون تجاوزا بالإنجيليين الأمريكيين، لكن عقيدتهم تعرف باسم المسيحية الصهيونية. وهم أصحاب مذهب مسيحي وليسوا يهوداً، لكنهم يشكلون كتلة متماسكة، تلزم أعضاءها بالنزول بشكل جماعي إلى صناديق الانتخابات، للتصويت لمصلحة من يستجيب لعقيدتهم.
وعقيدة هؤلاء تقوم على الاعتقاد بأنه في حالة سيطرة اليهود على القدس بالكامل، وحدوث معركة بين العرب و«إسرائيل»، تنتصر فيها «إسرائيل» حسب تخيلهم، سيكون ذلك إيذاناً بالظهور الثاني للسيد المسيح على الأرض.
هؤلاء صوتوا لمصلحة ترامب في انتخابات الرئاسة عام 2016. ولكي نعرف حجم أصواتهم، ففي انتخابات عام 2000، بين جورج بوش، وآل جور، التي فاز فيها بوش، فقد صوت جميع أفراد هذه الطائفة لمصلحته، ورجحوا كفته، لأنهم كما قدرت الإحصاءات كانوا يمثلون 20% من الأصوات الكلية للناخبين، وهو رقم ليس بسيطاً، خاصة أن كثيرين من الأمريكيين لا يذهبون في كل انتخابات إلى صناديق الاقتراع.
وكانت هناك قوة دفع أخرى من داخل الدائرة الضيقة المحيطة بترامب، ناتجة عن اختياره شخصيات لها توجهات صهيونية، ليعهد إليهم بمسؤولية إدارة ملف الشرق الأوسط، وعملية السلام، والعلاقات «الإسرائيلية» – الفلسطينية. وهم السفير الأمريكي في «إسرائيل» ديفيد فريدمان، الذي تربطه علاقات وثيقة بالمتطرفين في «إسرائيل»، وجاريد كوشنر زوج ابنته، وله بيت في «إسرائيل»، وجيسون جرينبلات مبعوثه للشرق الأوسط، وكلهم يهود، ومن دعاة التوسع في المستوطنات وفي ضم القدس ل«إسرائيل».
تحت تأثير هذه المؤثرات، فضلاً عن أن ترامب أصمّ أذنيه عن آراء خبراء الشرق الأوسط الأمريكيين، والذين يعرفون جيداً خطورة مثل هذا القرار، على المصالح الأمريكية، فقد جاء قراره المندفع في اتجاه إرضاء «إسرائيل»، وإعطاء شرعية ضم «إسرائيل» للقدس الشرقية، وهو ما أقدمت عليه في اليوم التالي لصدور قراره، بإعلانها عن البدء بإنشاء 14 ألف مستوطنة في القدس. ولم يتضمن قرار ترامب أية تفاصيل عن كيفية تحقيق السلام، أو مراعاة حقوق الشعب الفلسطيني التي تجاهلها كلية.