هل تعيد القدس الوهج للقضية الفلسطينية؟
د. محمد الصياد
«هذا هو الوقت المناسب لهذا الإعلان، نحن نترك حيِّزاً للفلسطينيين، لعملية السلام هذه كي تتقدم للأمام، وهناك أمور تحدث لا يعلم عنها سوى أولئك المنخرطين في المفاوضات، بينما سيعرف الناس في جميع أنحاء العالم عنها في الوقت المناسب». بهذه ونحوها من العبارات، تناوب كبار مسؤولي البيت الأبيض الذين رفضوا الإفصاح عن هوياتهم، للرد على فضول الصحافة العالمية التي «هجمت» على البيت الأبيض لمحاولة اقتناص معلومة أو تفصيل ما عن القرار الذي كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يتأهب لإعلانه بطريقة استعراضية في قاعة الاستقبال الدبلوماسي في البيت الأبيض يوم الأربعاء 6 ديسمبر 2017 في الساعة الواحدة ظهراً بتوقيت واشنطن. أي قبل يوم واحد من اجتماع المسلمين المعتاد في كل يوم جمعة لأداء صلاة الجمعة في جوامع ومساجد مشارق الأرض ومغاربها. فيا له من توقيت! ويا لمغزاه المستهتر والمستهين بردّات الفعل الشعبية العربية والإسلامية.
ما من ملتقى وحشد بشري بهذه الضخامة، يمكن أن تنظّمه أية جماعة بشرية دينية، كملتقى صلاة الجمعة لمسلمي العالم قاطبة الذين يناهزون المليار ونصف المليار نسمة. وعلى ذلك، وكما كان متوقعاً، فما أن حل يوم الجمعة حتى رأينا كيف اتحدت مشاعر المسلمين في غير بلد عربي وإسلامي لإلقاء جام غضبهم على التجرؤ الأمريكي للمساس بأحد أهم مقدساتهم، وهي مدينة القدس، مدينة الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، في موقف نادر الحدوث، خصوصاً في ظل الحالة البائسة التي يجتازها العالمان العربي والإسلامي.
نزعم أن هذا القرار الأمريكي المُجسِّد لاندغام الأيديولوجية الصهيونية مع الأيديولوجية الصهيونية المسيحية الأنجليكانية التي يؤمن بها عديد من أعضاء فريق الإدارة الأمريكية الحالية مثل جاريد كوشنر؛ ونائب الرئيس الأمريكي مايك بنس الذي يتحدث عن «إسرائيل» بتملّق أيديولوجي بائس، في منافحة ظاهرة للاّهوت والتفسير اليهودي لقيام «إسرائيل» وقدسيتها؛ والمندوبة الأمريكية في الأمم المتحدة نيكي هايلي التي لبّت دعوة الحكومة «الإسرائيلية» ووقفت بخشوع أمام حائط البراق وقالت «إن حياتي قد تغيرت منذ تلك اللحظة»؛ وسفير أمريكا في «إسرائيل» ديفيد فريدمان نصير المستوطنات – نزعم أن هذا القرار الأمريكي الاستفزازي، الانقلابي، الذي استهدف استكمال عدة البنية التحتية للدولة اليهودية الخالصة التي تعمل الصهيونية اليهودية والصهيونية المسيحية الأنجليكانية إعلان قيامها، فإذا به من حيث لا يبتغي، يعيد الوهج، ومن خلال القدس بالذات، للقضية الفلسطينية التي حاول الكثيرون هنا في العالم العربي وفي عواصم القرار الأمريكي والأوروبي الغربي، طمسها، وعملوا على ركنها وتذييلها قائمة أولويات وأجندات العمل اليومي للأسرة الدولية – يعيد لها اعتبارها ووهجها.
خطوة مثل هذه لا بد أن تكون لها تداعيات كبرى وصغرى، لعل إحدى أبرزها وأكثرها حرجاً، هي تلك المتمثلة في أن هذه الضربة التي سدَّدها الرئيس الأمريكي صوب المرمى المقدسي، قد وضعت السلطة الوطنية الفلسطينية في مأزق سياسي تاريخي بالغ الخطورة. إنما هي بالمقابل، في الوقت الذي وضعتها أمام هذا التحدي المصيري لمستقبل القضية الفلسطينية وقضية فلسطين بالإجمال، فإنها وفّرت لها بنفس القدر، وفي ذات الوقت، فرصة ذهبية لن تتكرر ربما إلا بعد مضي عقود من عمليات تخمير وإنضاج ظروف مغايرة ومواتية، لإعادة الانقضاض واقتناص الحق المسلوب. فما الذي ستفعله السلطة إزاء هذا التحدي؟ وما الطريق الذي ستسلكه في قادم الأيام للخروج منه؟ مع أخذها بعين الاعتبار أن ما قبل قرار ضم القدس ليس كما بعده. فالأمور انقلبت الآن رأساً على عقب. ف«الإسرائيليون» حصلوا أخيراً على مباركة الولايات المتحدة، صاحبة اليد الطولى في الشرق الأوسط وفي تصنيع وإعادة تصنيع وتشكيل أحداثه، بأن تكون القدس بأكملها عاصمة للدولة اليهودية المزمع إعلان إقامتها.
الخيارات أمام السلطة الفلسطينية، لا شك محدودة، إن لم تكن معدومة، في ظل الأوضاع البائسة التي يجتازها العالم العربي على كل الصعد. ولكنها لن تستطيع بعد اليوم الهروب من الاستحقاق الذي طال انتظاره منذ ثبوت فشل صفقة أوسلو المبرمة قبل نحو 24 عاماً، وهو الاختيار بين العودة لبزّة أبي عمّار وكوفيته الفلسطينية برمزيتها النضالية التحررية، وبين الاستمرار في ممارسة دور الإدارة التنفيذية وتسيير الأعمال داخل «غيتو» يسمى إدارة الحكم الذاتي يتقاضى موظفوها مرتباتهم الشهرية من موازنة تموّلها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبعض البلدان العربية.
alsayyadm@yahoo.com