غير مصنفة

مراجعات ما بعد «الفيتو» الأمريكي

د. محمد السعيد إدريس

وضع المندوب «الإسرائيلي» في الأمم المتحدة «داني دانون» ليس فقط السلطة الفلسطينية أو الدول العربية، أو حتى منظمة المؤتمر الإسلامي بل العالم كله، أمام تحدٍ غير مسبوق، على كل هذه الأطراف أن ترد عليه باللغة التي يفهمها.
فقبيل انعقاد جلسة مجلس الأمن للتصويت على مشروع القرار العربي الخاص برفض قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إعلان القدس عاصمة «لإسرائيل» يوم الاثنين الماضي، فاجأ هذا المندوب الحضور بتصريح اعتبر فيه أن تصويت أعضاء مجلس الأمن قد يتكرر مئة مرة إضافية، لكن ذلك لن يغير حقيقة بسيطة هي أن القدس كانت وستبقى عاصمة «إسرائيل».
هذا التحدي جاء منسجماً مع ما ورد على لسان المندوبة الأمريكية في مجلس الأمن هي الأخرى نيكي هايلي، بأن للولايات المتحدة «الحق الكامل كدولة سيدة أن تقرر نقل سفارتها إلى القدس»، وشنّت هجوماً على الأمم المتحدة قبل أن ترفع الفيتو الأمريكي ضد مشروع القرار العربي، وتحدثت عن «العار» الذي سيلحق بالمنظمة الدولية كونها «باتت مكاناً معادياً لأكثر الديمقراطيات ثباتاً في الشرق الأوسط» في إشارة ل «إسرائيل»، ولم تكتف بذلك لكنها أمعنت في التحدي والاستهانة بالمجتمع الدولي بل وبالسياسة الأمريكية والإدارة الأمريكية السابقة للرئيس باراك أوباما، عندما اعتبرت أن القرار 2334 الذي يدين الاستيطان، ومررته إدارة أوباما في مجلس الأمن من خلال امتناعها عن التصويت في العام الماضي «يشكّل لطخة في سجل الولايات المتحدة».
مثل هذه التحديات تفرض أن يكون الرد باللغة التي تعرفها وتفهمها كل من الولايات المتحدة و«إسرائيل»، وهو الرد الذي يؤثر سلبياً في المصالح الأمريكية و«الإسرائيلية». فالمصالح هي التي تحرّك الدول. هذا يعني أن المسؤولية فلسطينية – عربية بالأساس لتغيير السياسات «الإسرائيلية» و«الأمريكية»، ومن الضروري أن يحدث توازن بين التحرّك الدبلوماسي العربي على الساحة الدولية، سواء في مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، أو أية سبل أخرى على نحو ما ورد من تعليقات على «الفيتو» الأمريكي، جاءت على لسان الأمين العام لجامعة الدول العربية، وبين السلوك العربي والفلسطيني في محاولة لتعديل موازين القوى الفعلية على الأرض، أخذاً في الاعتبار الأهمية القصوى للقرار الفلسطيني بهذا الخصوص، فهو مفتاح كل تحرك عربي ودولي.
فالعالم كله يتابع الآن ما يحدث على المستوى الفلسطيني من مراجعات باتت ضرورية بل وحتمية، سواء على مستوى العلاقة بين الفصائل الفلسطينية أو مع سلطات الاحتلال «الإسرائيلي».
أولى هذه المراجعات تخص الوحدة الوطنية الفلسطينية، وإذ لم يعد ممكناً الحديث عن ضغوط لها معنى على سلطات الاحتلال في ظل الانقسام الوطني الفلسطيني. لذلك تكتسب دعوة الرئيس الفلسطيني محمود عباس كلاً من حركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي» لحضور اجتماع المجلس المركزي الفلسطيني المقرر انعقاده في منتصف الشهر المقبل، أهمية كبيرة، خصوصاً أن هذا الاجتماع سيكون معنياً بإصدار جملة قرارات للرد على ترامب والتعنّت «الإسرائيلي»، وتشكّل في مجملها «خطة التحرك السياسية الفلسطينية» المقبلة.
ثانية هذه المراجعات تتعلق بموقف السلطة الفلسطينية من اتفاق أوسلو، فالأمر المؤكد أن هذا الاتفاق قد «أسقطته» سياسات التعنّت «الإسرائيلية» المدعومة أمريكياً، وبات من الضروري إصدار قرار فلسطيني بإنهاء هذا الاتفاق، والأهم هو الإقدام على خطوة جريئة تقضي ب «حل السلطة الفلسطينية» وتجديد تفعيل الدور القيادي لمنظمة التحرير الفلسطينية بمشاركة كل الفصائل الفلسطينية، بما فيها حركتا «حماس» و«الجهاد الإسلامي».
ثالثة هذه المراجعات مرتبطة بالمراجعة الثانية وتخص إنهاء «التنسيق الأمني» بين السلطة الفلسطينية وسلطات الاحتلال، وهو التنسيق الذي كان دائماً لمصلحة الأمن «الإسرائيلي» على حساب المصلحة الوطنية الفلسطينية. وبعد كل الاستهانات «الإسرائيلية» بهذه المصلحة وبالعلاقة مع السلطة، كما أكدتها ممارسات الأيام الماضية التي أعقبت قرار ترامب، وخاصة العنف المفرط واللا إنساني مع الأطفال وقتل المتظاهرين عمداً أمام أعين العالم كله، والاستعداد لإصدار قانون «يقضي بإعدام الإرهابيين»، أي المقاومين الفلسطينيين، ثم التطاول على القيادات الفلسطينية المتعاطفة مع حق الشعب الفلسطيني في التظاهر على نحو ما ورد على لسان ما يسمى «المنسق» لدولة الاحتلال بحق محمود العالول نائب رئيس حركة «فتح»، رداً على ما ورد على لسان العالول أن «اتفاق أوسلو انتهى بعد قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارته إليها، وكل أشكال المقاومة مشروعة»، فقد هدّده هذا المنسق بالقول: «السيد العالول تذكّر أن كل الكلمات لها انعكاسات، وأن عليك مسؤولية.. ممنوع التفوّه بتصريحات تندم عليها لاحقاً.. أنصحك بتوضيح أقوالك».
رابعة هذه المراجعات تتعلق بتجديد الثقة الفلسطينية في خيار المقاومة بانحياز السلطة إلى المطالبين بتحويل «هبّة الرفض» لقرار ترامب إلى «انتفاضة ثالثة» تخشاها سلطات الاحتلال، التي باتت تدرك أنها ستكون مضطرة لدفع أثمان فادحة لقرار ترامب، وفي مقدمة هذه الأثمان عودة القضية الفلسطينية مجدداً كقضية لها ثقلها العربي والعالمي، وهذا لن يحدث دون تفجير انتفاضة ثالثة.
بعدها يأتي الدور العربي الداعم للصمود الفلسطيني وهو الدور الذي سيحظى حتماً بتأييد دولي قوي أضحت مؤشراته مؤكدة، عندها يمكن تجديد الآمال في فرض التغيير والاحترام للشرعية الدولية على كل من يتطاولون عليها ويحقّرون من شأنها.

msiidries@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى