القدس فرصة لاستعادة النفس
د. محمد الصياد
في عام 1948، في أعقاب الحرب العربية- «الإسرائيلية» الأولى، تم تقسيم القدس إلى جزءين: جزء شرقي بغالبية عربية، (مسلمة ومسيحية)، بقي تحت الإدارة العربية الأردنية حتى الحرب العربية -«الإسرائيلية» الثانية عام 1967، قبل أن يقع ضمن الأراضي التي احتلتها «إسرائيل» في تلك الحرب، وجزء غربي تم تهجير سكانه العرب الفلسطينيين في عام 1948. يضم الجزء الشرقي العربي، القدس القديمة، التي تضم الأماكن المقدسة للديانات التوحيدية الثلاث الإسلام، والمسيحية، واليهودية: المسجد الأقصى، وكنيسة القيامة، وحائط البراق أو كما يسميه اليهود «حائط المبكى». فيما يضم الجزء الغربي من المدينة، الذي سُمي بالقدس الغربية؛ عقب احتلاله من قبل العصابات الصهيونية، لاسيما «الهاجانا»، في الحرب العربية «الإسرائيلية» الأولى عام 1948، متحف «إسرائيل»، ومبنى البرلمان «الإسرائيلي» (الكنيست)، ومبنى المحكمة العليا، وسلسلة جبل الذكرى، الذي يضم قبور الجنود «الإسرائيليين» القتلى وقادة وزعماء الدولة الصهيونية. ويتميز هذا الجزء بمبانيه المصممة على الطراز الغربي. ومنذ عام 1967 قامت «إسرائيل» بمصادرة ثلث أراضي القدس الشرقية، وبناء مستوطنات جديدة عليها. وهذا ما يفسر وصول أعداد المستوطنين الصهاينة في القدس الشرقية إلى أكثر من 200 ألف مستوطن، مقابل عدد سكان المدينة من العرب الفلسطينيين البالغ حوالي 400 ألف نسمة، أكثر من 80% منهم يعيشون تحت خط الفقر؛ بسبب سياسة العزل والتضييق، التي تمارسها ضدهم بلدية المدينة، التي تنهض شاهداً على سياسة «الأبارتهايد»، التي تمارسها سلطات الاحتلال ضد المقدسيين، أصحاب الأرض، في إعادة إنتاج صريحة لنسخة «غيتوات» سويتو العنصرية بجنوب إفريقيا، إبان سيادة نظام الفصل العنصري.
في عام 1980، أعلنت «إسرائيل» القدس الشرقية، عاصمتها الأبدية والموحدة، في خطوة لم يعترف بها المجتمع الدولي، بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها. وفي عام 1995، أقر الكونجرس الأمريكي قانوناً ينص على «وجوب الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة «إسرائيل» وعلى نقل السفارة الأمريكية من «تل أبيب» إلى القدس». إلا أن الأمم المتحدة لا تعترف باحتلال وضم القدس الشرقية، وتعدها منطقة محتلة، وتعد القرار «الإسرائيلي» بضم القدس عام 1980 مخالفاً للقانون الدولي؛ حيث أصدرت في نفس العام قراراً حمل رقم 478 دعت فيه كافة الدول التي لديها تمثيل دبلوماسي في القدس إلى سحب بعثاتها من المدينة. وقبل ضم القدس الشرقية عام 1980، كانت هناك سفارات ل13 دولة في القدس هي: بوليفيا، وتشيلي، وكولومبيا، وكوستاريكا، وجمهورية الدومينيكان، والإكوادور، والسلفادور، وغواتيمالا، وهايتي، وهولندا، وبنما، والأوروغواي، وفنزويلا. وقامت هذه الدول بالفعل بنقل سفاراتها إلى «تل أبيب»؛ حيث توجد سفارات الدول الأخرى.
هذه هي القدس، أو بالأحرى هذا هو ما تبقى من القدس، التي تشي بعض المعطيات المنثورة هنا وهناك بأنه (هذا الجزء المتبقي منها)، سيذهب ضحية ل«ترتيبات» ما تُسمى «صفقة القرن» السرية، التي تحدث عنها بعض المسؤولين الأمريكيين بتقتير شديد. وما هي في الواقع سوى «كامب ديفيد 2» بمسمى مبهر، جاري «الإفراج» عن محتواها، بالتنقيط، وأول غيثها، على ما صار واضحاً، عربون واشنطن الذي تم صرفه ل«إسرائيل»، ضاربة به عرض الحائط كل العالم ومؤسساته ومواثيقه وقوانينه الحاكمة، وكل الاعتبارات السياسية والاقتصادية والإنسانية، التي يمكن أن تخطر على بال أعضاء الأسرة الدولية.
هي فرصة بقدر ما هو اختبار. اختبار للجميع، ابتداء من أبناء فلسطين، مروراً بعمقهم العربي ووصولاً إلى الدائرة الإسلامية الأوسع، بأن يظهروا استعدادهم الجدي والعملي لإعادة تصويب الأمور التي أفلتت من أيدي الجميع بمساهمة الجميع. وفرصة لإعادة تصويب وتزخيم بوصلة الصراع مع هذا العدو العنصري المتوحش، وإعادة تصليب الموقفين الفلسطيني والعربي بتساندهما مع بعضهما. والصمود هنا سلاح جبار..الصمود الفلسطيني يعضِّد ويقوي عزيمة وإرادة الصمود العربي، من حيث إنهما يستمدان طاقتهما من بعضهما. حتى إذا ما استمر هذا الزخم، فقد يستعيد العالم العربي نفسه، التي تاهت وضلت طريقها في معمعة الفوضى، التي تجتاحه منذ مطلع عام 2011، وهذا بدوره سينقل الأثر إلى الدائرتين الإقليمية والعالمية. وقد رأينا ذلك في المواقف العربية والإسلامية والدولية المُجمِعة والمساندة لفلسطين قبالة القرار الأمريكي الجائر والأرعن. هنا لن يكون كافياً رفض الاجتماع مع نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس الهائم بغرام «إسرائيل» التوراتية. وإنما مواصلة السير في خطة العمل النضالية والسياسية والدبلوماسية، التي أعلنتها القيادات الفلسطينية.
alsayyadm@yahoo.com