الوقف شريك في تنمية المجتمعات
محمد سعيد القبيسي
من أرقى النظم التي خلدها النظام الاقتصادي الإسلامي، نظام الوقف، وهو برنامج إنساني على أرفع مستويات العطاء والإنسانية، ينطلق من إيمان المسلم العميق بأهمية الصدقة الجارية في حياته لتمتد بعد وفاته إلى يوم القيامة، والوقف شرعاً هو حبس المال على أعمال خيرية جارية كالعلم والصحة والحالات الاجتماعية كاليتامى والمعسرين، وهو أموال منقولة أو غير منقولة يحبسها واقفها على ما يرى من أعمال البر والإحسان، وتبقى محافظة على أصولها، في حين يتم استثمارها ليعود ريعها إلى ما وقف له.
إنه نظام حضاري رائد ينم عن شفافية العطاء، وتكاتف المجتمع وتكافله، ويقوم بدور كبير في تسيير العديد من البرامج الاجتماعية أو التعليمية أو بناء دور العبادة والمدارس والمستشفيات ودور الأيتام ومراكز العجزة والمعاقين، ويعالج الفقر والجهل والأمراض.
ولقد ساهم الوقف منذ فجر الإسلام بالآلاف من الأعمال الخالدة التي لاتزال شامخة إلى اليوم، تشهد على عظمة هذا النظام الرباني الخالد، لقد حدده النبي عليه الصلاة والسلام بالصدقة الجارية، التي تبقى بعد أن ينقطع عمل ابن آدم في الدنيا، لتكون في ميزان حسناته إلى يوم القيامة.
نذكر من الأوقاف الجارية في عهد النبوة إلى يومنا هذا وقف عثمان بن عفان بالمدينة المنورة الذي مازال إلى عهدنا اليوم، يدر من ريعه المساعدات الإنسانية من ذلك البستان الذي أوقفه لوجه الله تعالى، وكذلك تحضرنا قصة الخيزران أم هارون الرشيد، عندما أقامت أكبر مشروع وقف بذلك العهد، عندما شيدت أكبر مجرى لنقل المياه من الطائف إلى منى لسقيا الحجيج أيام التروية، وكذلك ما نراه في سائر العواصم العربية من مآذن شاهقة ومساجد أثرية وسبل مياه ومدارس وكتاتيب، تحكي قصة ما خلفه أجدادنا من أوقاف، حتى باتت في معظم الدول العربية وزارات للأوقاف.
وانتقل هذا النظام الاقتصادي الإيماني بصورته الإنسانية إلى الحضارات الأخرى، لذلك فإن العديد من الجامعات اليوم قد عملت بهذا البرنامج، كذلك استنارت وبات أهلها يعملون على هذا النهج، وكما سمعت فإن جامعة هارفارد في الولايات المتحدة الأمريكية ميزانية بحوثها العلمية أصولها وقفية، يتم استثمارها والإفادة من ريعها في الدراسات والبحوث.
كل ما ذكرناه من حضارة نظام الوقف يتجدد اليوم بتوجيهات سامية من صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، بإعلانه أن مؤسسات الوقف شريك في تنمية المجتمعات، حيث يؤكد دور الاستثمارات الوقفية في صناعة النموذج العالمي الجديد للعمل الخيري والإنساني التنموي، لتأسيس نماذج جديدة من المشروعات الإنمائية، خاصة في مجال البحوث والدراسات الإنسانية والعلمية، وفي دعم المؤسسات الاجتماعية، وهو مشاركة عملية بين سائر القطاعات وأصحاب رؤوس الأموال والتجار.
هذه المبادرة الجديدة هي انبعاث جديد لنظام وقف، هي دعامة جديدة لبناء مجتمع يسوده التعاون والتكافل الإنساني على كل صعيد.
والوقف لا يقف عند أصحاب رؤوس الأموال فقط، وإن كان لهم الدور الأول، ولكن يمكن لكل إنسان أن يساهم في هذا البرنامج الخيري وبكل كرامة، يحتسب أجره عند الله فقط وبأي مبلغ أراد قليلاً أو كثيراً.
هذه المبادرة تدعونا إلى مزيد من الاطمئنان الوطني المخلص إلى مستقبل أجيالنا ومستقبل حضارتنا التي لا تتوقف عن العطاء بسخاء.
«الخير باقٍ في أمتي إلى يوم القيامة».
abudhabi@email.com